أسماء خوالدية: الأديانُ تلويناتٌ ضمن نظام توحيديّ متكاملٍ

ثقافة 2023/05/30
...

 أجرى الحوار: كه يلان محمد

الأهم في التصوف بوصفه معتركاً روحانيا هو الامتثال في المسلك لإرساليات الحق، وليس التنظير، ولا إطلاق الأحكام على المختلف في العقيدة والمذهب. يستدعي فهم هذا الاتجاه في التدين وما ينشده من السكينة الروحية الاغتراف من سيرة رموزه. بدورها كرست الباحثة التونسية أسماء خوالدية جل مؤلفاتها لمتابعة الأدبيات الصوفية. ويتميز خط خوالدية  بمنهجية واضحة لا يخالطها الغموض والالتفاف، وكان لنا حوار مع صاحبة «المحبة عند الصوفية» حول دور التصوف في المنظومة الدينية وموقع الجسد في المنهاج الصوفي.

* ما هو دور التصوف في المنظومة الدينية ؟


 - إنّه لا طائل حقيقةً من إقامة الحدود الفاصلة بين التّصوّف وغيره من العلوم، من قبيل الفقه أو علم الكلام أو علم التّفسير، لأنّه يتغلغل فيها على نحوٍ عجيب.

ما من فقيه إلاّ وَلَهُ وَلَهٌ بلطائف التّصوّف، ومراميه البعيدة في العبادات والمعاملات. 

وإنّه ما من تفسيرٍ إلاّ وتبيّن أنّ الإشارات هي الرّوافد المُغنية للعبارات، وأنّ ما يُدركُ بالقلب هيهات منه العبارةُ مهما علت جودتُها... وإنّه ما من مبحث فلسفيّ إلاّ واتّصل بالعرفان على نحوٍ ما، على اعتبار أنّ كلّ مسار تسليكيّ يختاره السّالك لنفسه أو يُقِرُّهُ الشّيخ لمريده يستبطن منهجا عرفانيّا مدروسًا ونسقا فكريّا مُتّسِقًا.

وكذا الأمر مع بقيّة العلوم. 

التّصوّف إذن هو - في اعتقادنا- العمق الرّوحانيّ الكائن في كلّ تمثّلٍ، والذّاوي في كلّ قراءةٍ، والمتواري في كلّ سلوكٍ. 

إنّه الكفيل بجعل الفضائل الرّوحيّة مقامات، والتّرقّي في مراتبها عُروجا.


* التجارب الروحية المتمثلة في الزهد والعزلة لها جذور في الأديان الأخرى توحيدية  كانت أم غير توحيدية. ماذا يميز التصوف الإسلامي على هذا الصعيد؟


- للإجابة على هذا السّؤال سننطلق من مُسلّمة مدارها أنّ جميع الأديان ما هي إلاّ تلوينات ضمن نظام توحيديّ متكاملٍ، يروم التّدبّر في اللّه، والفناء في اللّه، وتقوى اللّه، وإسعاد النّفس باللّه، وبلوغ منتهى المرامات باللّه. 

إنّها في اعتقادنا لا تعدو أن تكون مُجرّد مسارات لبُلوغ الحقائق الرّحمانيّة. بهذا الاعتبار تكون التّجاوبات بين الأديان أمرا بديهيّا لأنّها تنحو نحو هدفٍ واحدٍ. ولهذا كثيرا ما تتغذّى الأفكار في الدّيانات من بعضها البعض، لا في مُستوى المعاجم فقط، بل في مستوى الأفكار والمفاهيم أيضًا. تبعا لذلك نلحظ أثر العرفان الفارسيّ في التّصوّف الإسلاميّ واضحا. وهو ما ساهم في «فلسفة» التّصوّف لاسيّما مع ابن عربي. ولا يذهبنّ بنا الظنّ إلى أنّ الأمر مُتّصلٌ بالمتأخّرين، بل هو قديم منذ أوائل المتكلّمين كإبراهيم بن الأدهم (ت161هـ) وغيره قبْلا وبعدًا. وإنّا نزعم أنّ التّفتيش في الأصول البعيدة لبعض الصّوفيّة والتّحرّي في أنسابهم، والتّشكيك في سلامة تصوّفهم أمرٌ لا طائل منه لأنّ التّصوّف الإسلاميّ بمثابة النّهر الجاري الذي صبّت فيها الرّوافد والجداول صبيبها. وهيهات أن نعيد فصل مصادر المياه وقد اندمجت وتآلفت وانصهرت.


* يفهم من مضمون كتابك الأحدث «الجسد في التجربة الصوفية قاتلا ومقتولا» أن الجسد أداة المتصوف وشريكه حسب تعبيرك هل هناك مواصفات معينة تعد علامة فارقة للجسد الصوفي؟


- ما المسار الصّوفيّ في صميمه، إلاّ شَطْبات لا تُحصى لنوازع الجسد واشتراطاته. حتى لَيُخيَّلُ إلى المتدبّر أنّه المارد الذي يسكنُ النّفسَ، لا النّفسَ التي تسكنُهُ. لذا لا تَتَكَشَّفُ ألغازُ الجسد إلاّ بِقَدْرِ التّنقيب فيه، والتّفتيش داخل تُربَتِهِ الـمُلْغِزَةِ الدُّرْدِيَّةِ. إنّه إذن مجال صراع الصّوفيّ ومصرعه. أو لِنَقُلْ إنّه لا علاقَةَ معه سوى علاقة الصّراع قصْدًا أو إضمارًا. 

إنّه يمدّنا بصور متفرّقةٍ، وفي الوقت ذاته، يمنحنا مجموعة متكاملة من الصّور. وفي الحالتين نتبيّن أنّ الخيال يمنح إضافات لدلالات الجسد سواءٌ في إظهار أحواله أو في تلقيها. من هذا المنطلق تصبح الشّعائر والعبادات والطّقوس والممارسات عموما، آلياتٍ ترافق الصّوفيّ أثناء رحلته الشّاقة والمضنية عساه يحفظ نقاوة نفسه وجوهرها السَّنِيّ عبر هلاك جسده وجوهره الدّنيء. من بداهة الأمور إذن أن يكون الجسد في عُرف الصّوفية  معطوبا بالأسى والذِلّة والحاجة، مجبولا على الغرور. إنّه المغزل تَحُوطُ به خيوط السّلبية.


* ما يسترعي الانتباه هو قولك بأن خطاب الأنثى في التصوف الإسلامي لا يمتلكُ خصيصة تميزه عن الخطاب الذكوري وأن اختلاف الجنس ليس له موقع في التجربة الصوفية هل هذا هو حصيلة تطويع الجسد للبعد الروحاني؟


- لقد شيّدت الكتابة الصّوفيّة تصوّرا جديدا للمرأة ولمفهوم الأنوثة الذي ترمُزُ إليه، لا بما هي قرينةٌ لجنس مُغاير، إنّما بما هي رمزٌ من رموز المُقدّس، ومَعْبَرٌ وُجُوبيّ نحو السُّمُوّ والتّعالي. وغير خفيّ ما ينطوي عليه هذا التصوّر من تقويض للمفاهيم الفقهيّة المُتزمّتة التي رسّخها الفكر الفقهيّ منذ عقود من الزّمن، تقويضه المفاهيم الغزليّة الشّبقيّة للمرأة بما هي جسمٌ مُشْتَهَى موصوف، ما محبَّتُهُ إلاّ رغبة في تملُّكه، والتصرّف فيه. 

الكتابة الصّوفيّة حول الكائن الأنثويّ إذن انزياحٌ جذريّ عمّا هو سائدٌ ومألوفٌ. ولهذا صاغ ابن عربي خطابا صوفيّا في الجسد، وبالجسد، بلغة حِسّية مُغْتَلِمَةٍ، نَحَتَ بها جسدا حُبيّا صوفيّا معياريّا.

وإنّ إقرار ابن عربي بالمركزيّة الأنثويّة قَوَّضَ بديهيات الفكر الأحاديّ من جذوره، ذاك الفكر الذي انبنى على المركزيّة الذّكوريّة. فتقاطع في أفقه الأنثويّ بالوجوديّ، بل بالكونيّ، ممّا أبان عن تشابك وتوالج في غاية من الندّية بين الأنوثة والذّكورة. يقول ابن عربي في هذا السّياق:

إنّ الأنوثَةَ من نعت الرّجال لذا     

تراهُمُ  يحملون العلْمَ في الصُّوَرِ

فيصبحون حَبَالَى حاملين به      

حَمْلَ السّحاب لِما فيها من المَطَرِ


* زاوج الصوفيّة بين مفهوم الجسد ومفهوم الأنوثة في أدبياتهم، مما أوجد تعارضا واضحا بينهم وبين المدونة الأدبيّة من جهة، وبينهم والمدوّنة الفقهيّة من جهة ثانية. كيف يتسنى لك بيان ذلك؟


- للإجابة على هذا السّؤال المفصليّ الشّائك سننطلق من مقولة ابن عربي والتي مَتْنُها: «إنّ كلّ منفعلٍ رتبته رتبة الأنثى. وما ثمّ إلاّ منفعلٌ».( الفتوحات المكّية. ج:1. ص:507.) بهذا الاعتبار يصير مسار التّلمَذَةِ مسارا أنثويّا خالصا، لأنّ المريد في محلّ الانفعال لا محالَةَ. 

تطولُ مُدّتُهُ أو تقصُرُ، بحسب درجة أنوثته قوّةً أو ضُعفًا، وبحسَبِ درجة استعداده لذلك أو طواعيته إزاءَهُ. ولعلّه لهذا تحديدا كثيرا ما يتمّ التّشديد على ضرورة تسليم المريد تسليما مطلقا غير مشروط بقدرة شيخه وإِمْرَتِهِ. وبالتّالي فإنّه كلّما استغرقته محبّتُهُ، وانجذب بكلّيته إلى حضرته، واستحكم سُلطانُهُ المشهود في جسميته، وسرى فيها دونما عطالةٍ أو إباءٍ، فأبان انفعالُهُ وتأثُّرُهُ عن ذلك كان في محلّ الأنوثة الحقّة..

ما التّصوّف إذن إلاّ تجربة أنثويّة عرفانيّة. الأنوثة فيها كنايةٌ عن الممكنات التي يتحلّى بها المريد، والتّي تُخوّل له قبول الواردات واللّطائف والإشارات والتّنبيهات... قَبُولَ التّربة لِما يقعُ عليها من مُزَنٍ. ومادام المريدُ في مقام التّعلّم فهو في مقام الأنوثة لا محالةَ. وبالتّالي فإنّ اتّصافه بالذِّلّة والصَّغار والافتقار والتّواضع...وقبوله مَهَانَات النّفس هو السّبيلُ إلى بلوغ العبوديّة

على خلاف ذلك بالكُليّة احتفى القصيد الجاهليّ بالجسد الأنثويّ لا الذّكوريّ. وصوّر العلاقة بينهما قائمة على الحيازة والتملّك، لا التّكافؤ والتّساوي. فبدت الأنثى جسدًا غنيمةً، يُشتَهى، ويُلاحَقُ، ويُخَصّبُ، ويُوصَفُ، ويُشَبّه، ويُشَبَّبُ به...وهو في المطلق جسد مفعول به لا فاعل. ولاحقا تغذّت هذه الصّورة بالتّفاسير الفقهيّة التي رسّخت دلالات سلبيّة، انضوت تحتها- سرّا وجهرا- معاني الدّونيّة والاعوجاج والتّسخير.

الجسد الذي نَمْنَمَتْهُ القصيدة الجاهليّة والعذريّة والإباحيّة، عَصَفَتْ به القصيدة الصّوفيّة، ومزّقت أواصِرَهُ، إذ ليس الجسدُ في القصيدة الصّوفيّة مَتَاعٌ، ولا هو موضوع حبّ إيروسيّ، ولا هو موضوع للاستِلْذاذ بأطايِبِهِ، ولا حتّى هو منفذ إلى إنسانيّة الإنسان وكينونته. إنّه الحجاب الذي وَجَبَ الانسلاخ عنه. الجسد إذن هو الفضاء المكانيّ الذي يُسمَعُ فيه رنين الألم ورجيع صداه.


* كيف أسبغ الصوفيّة على الجهاد والفتوة معجما تأويليّا مختلفا؟ إلى أي مدى لون ذلك مسارهم سلوكا وتدوينا؟


- كثيرا ما تمّ الحديث عن الجهاد - وفْق المنظور الصّوفيّ- جهادا سلوكيا عمادُهُ تنقية النفس من شوائبها وكبت رعوناتها، وذلك استنادا إلى معاني الإيثار والنجدة والتعفّف...غير أنّا نزعم أنّ الفتوّة هي القيمة الأُمّ التي صاغت مفهوم الجهاد وشكّلته وذلك وفْق سيرورة نامية ما انفكّت تتلوّن بحسب الوقْتِ سِلما أو حربا، وبحسب الحال خوفا أو بَسْطًا، وبحسب المقام مِنّةً أو كسبًا... ولئن ارتبطت الفتوّة بالفروسيّة والإقدام في ظاهرها فإنّها أبانت باستمرار عن سماحة في البذل ورغبةٍ في العطاء غير مشروطة، سواءٌ أكان الإيثار بالخدمة أو السمعة أو المهجة..وهنا تحديدا صار الجهاد من أمارات الرجولة وصارت الفتوّة من صفات الرجال. 

إنّ الجهاد بهذا الاعتبار هو الإرادةُ لا محالةَ: إرادة البذل والعطاء والنّصَبِ والتّعَبِ والتّدبّرِ والعبادةِ وجميع صنوف التقرّبِ، فـ»الواقفُ لا يقبله الغيارُ، ولا تُزحزحُهُ المآربُ» على حدّ عبارة النّفري. ولهذا كثيرا ما قال الصّوفيّة: «إنّ المُحِبّ لفي عناءٍ».

وإنّ صورة الفارس هي من أبلغ الصّور التي تعبّر عنهما. إنّها تجسّد الفروسية بمعطييها: السموّ الخلقيّ والسّجايا الحميدة من جهة، وفروسية القتال والنزال من أخرى. ولهذا استحسنا عبارة فريد الدين العطار حين قال في الحلاج: «بأية حماسة وحمية وجدانية قامر هذا العاشق الجسور برأسه كيما يظفر بجوهرة الجمال الإلهي».

وبهذا يتحقّق أسمى بذْلٍ للمحبوبٍ ألا وهو «بذل المُهج في جانب المحبوب» وِفْقَ عبارة ابن عجيبة. وقد ساق الجنيد قولا في ذات المعنى. قال: «قال حيان بن الأسود: الموت جسرٌ يوصَلُ به إلى الحبيب المُحبُّونَ». والموت صنفان: إماتة القلب بقطع علائقه بزخارف الدنيا ومباهجها، وإماتة الجسد عبر الرّياضات والسياحات. فتلمع أنوار المكاشفات والتجليات والفيوضات. وحينها يحيى المُحْبُّ بالمحبوب.

تقبّل الصّوفيّة تهلُكة رموزهم وما عانوه من تضييق وتنكيل من قبل الفقهاء والصوفيّة والمتكلّمين والساسةِ بطولةً وتفديةً فقد أسرفوا البحث في أسرارهم ونفحاتهم وعلومهم وكراماتهم بما هي إشراف على درجات متعالية من الاتصال والإشراق والولاية. وهم في ذلك منزاحون بالكلّية عن التصوّر الإسلاميّ الذي لا يرى الموت عقابا على الخطيئة بل هو النّهاية الطّبيعيّة للحياة. ولا يمكن أن يكون له أيّةُ قيمةٍ تكفيريّةٍ ولا خلاصيّةٍ. قال سهل بن عبد الله هي هذا المعنى:»الصوفي من يرى دمه هدرا أو مُلْكَهُ مباحا».


* أوجب الغزالي أن يتشبث المريدُ بشيخه كالأعمى الذي يمشي على حافة النهر. كيف تفسرين مخالفة بعض المتصوفة لهذا المبدأ وقد شق كل من الحلاج والسهروردي وعين القضاة الهمذاني عصا الطاعة؟


*كنت قد أشرتُ آنفا إلى أنّ التّجربة الصّوفيّة تنطوي على جانب حميميّ عميق لا مجال لإنكاره. وهو ما يعني أنّ عنفوان المريد السّالك  قد يتمظهر بشكل متوهّج أو ثائرٍ، لا صَلَفًا وزندقةً كما اتُّهم الحلاّج وعين القضاة والسّهروردي، بل لانفتاح آفاق جديدة لهم في الفهم والقول والتّأويل. وغير خفيّ ما لاقوهُ من عَسْفٍ وتضييقٍ وتنكيلٍ من قِبَلِ الفقهاء. ولمّا كان «العهد» بين الشّيخ والمريد قائما على انسلاب الإرادة بالكلّية، إذ لا إرادةَ للمريد أمام إرادة شيخه لا حقيقةً ولا مجازًا، وأنّه موضع تحقّق إرادة شيخه وأمره، يتقبّلها مسلِّما. 

وتقع عليه وجوبًا. وتحُلُّ فيه تسليما... فإنّ أوان مشيخة المريد واسْتِئهاله إياها يكون بإمْرَةِ الشّيخ دون سواه. ومتى خالف المريدُ ذلك ساءَ أدبُهُ ووجبَ لعنُهُ. وبالتّالي ما نعتّه في سؤالك بـ»المخالفة» هو أقرب ما يكون إلى استعجال التّحرّر من رَبَقَة الشّيخ  والانفتاح على عوالم الفهم الصّوفي تأويلا وتدبّرا دونما تضييقٍ آسِرٍ أو خِناقٍ مشدودٍ.

 

* الاشكالية في التعاطي مع الخطاب الصوفي تكمن في انزياح المصطلحات والمفردات المحمولة بالتجارب الذاتية عن معانيها الملموسة في الأذهان هل يفهمُ من ذلك بأن تذوق هو الاختيار الأمثل لمعرفة لمقاصد التصوف؟


- لقد أنشأ الصّوفي لغتهُ الخاصّةَ، لغةً نمّتها أحواله ومقاماته ومواجيده. فكانت مِحرارا معبّرا عن صحوه وسكره، وعن غيبته وحضوره، وعن كَشْفِهِ وسَتْرِهِ... وعلى العموم كان خطابُه - على غموضه أحيانا وتعميته أحيانا أُخَرْ- ذا قدرةٍ استقطابيّةٍ عاليةٍ. ما زادته مِحن بعض الصّوفيّة تنكيلا وتقتيلا وتحريقا إلاّ قُدرةً على قدرةٍ. وما زاده الرّمزُ إلاّ مغايرةً تراوح  فيها التّرميزُ بين البداهة والتقصّد. فكانت المضامين لا تنكشف إلاّ بمقدار. ولا تُبين إلاّ بأقدار. وبين إغراب الرّمز الصّوفيّ بداهة وإغرابه قصدا تراوحت القراءاتُ فهما وتأويلا وتدبّرا، كُلّ بحسب أفقه وكفاءته.

وإنّا نسلّم بداهةً أنّ الخطاب الصّوفيّ لا يعدو أن يكون مجرّد افتراض ذهنيّ ما كان باستطاعته إيجادُ راهنه إلاّ بفعل المتقبّلين المتعاقبين حينما وضعوه رهن التّجسيد والحضور في كلّ تأويل مارسوه أو خبرةٍ جماليةٍ اكتسبوها منه أو وظّفوها فيه. إنّه غِلالة تُوضعُ على معاني المواجيد حتّى لا تُبينَ  إلاّ بالقدر اليسير. 

والأصل فيه أنه يجيء لاحقا لما يرمِزُ له، إذ تعرِضُ الحالةُ أو الفكرةُ. فيُرادُ تمييزُها ممّا قد يختلط بها من أشباهها أو أضدادها. فيتمّ البحث لها عن رمز يُميّزها. بهذا الاعتبار  يكون الرّمز  وسيطا بين الصّوفيّ وعالمه الخارجيّ، أو أداةً يستعملها لتنظيم تجربته بعيدًا عن الإكراهات التي يفرضها التّعبير المباشر. 

فإنّا نرى النصّ الصّوفي  آلة كتومةً  رموزها هي أُسّ التّعبير فيها. ووجودها يقتضي قارئًا متدبّرًا يُحيط بها في منابتها. ويصلُ ما بينها من بياضاتٍ. لذا فإنّ تقصُّدَ الصّوفي تخليق حمولاتٍ دلاليةٍ وإشاريةٍ للمفردات المألوفةِ. لا يأتي لمجرد تَرَف  شكليّ. إنّما هو لحاجة وضرورة. 

ولئن كان الرّمز عند عموم الصّوفيّة سترا وإضمارا.. فإنّه مع الحلاّج كان رعونةً وتحدّيا. وهذا ما أفضى إلى تحوّل نوعيّ من رمز ذي قابليّة تأويليّة إلى نصّ معمّى مبتدَع مفارِقٍ كلّ المعايير التّعبيريّةِ والتّركيبيّةِ والدّلاليّةِ. نصّ طلسم هو التّعبير الأقصى والأقسى عن عجز اللّغة من جهة، وعن قدرة الصّوفي على تخليق نصّ بديل هو المعادلُ التّخييليُّ لأحواله وعوالمه. هو الدّالّ والمدلول. 

وهو المرسِل والمتقبّل في ذات الآن. نصّ لا يتطلّب كفاية معجميّة ولا رمزيّة لحلّ مغاليقه بل كفايةً ذوقيّةً طلسميّةً.