تصادفنا مثل هذه الكلمات كثيرًا، سواء في النصوص الأدبية،أو في النصوص الفلسفية، وهما من الكلمات المتداولة يوميًا، والتي تشكل لسانًا شعبيًا، وربما تعبّر عنها الأحاديث الشعبية أفضل تعبير: (تعال هنا، ساراك الآن،...الخ)، كلاهما يحدد الآنية، مكانيًا وزمانيًا. في حين أنهما ، عندما يصبحا مفهومين فلسفيين، ستتغير دلالتهما التعبيرية، فـ”الآن” تعني الوجود هنا، والـ “هناك” تعني الوجود في زمن آخر. يتحدث أميل حبيبي في رواية “المتشائل” عن “الـ هنا، والـ هناك،” ويعنى الآن والمستقبل، يعني المكان الذي هو فيه الآن، اي المكان الفلسطيني المحتل، ويعني بـ “هناك” المكان الإسرائيلي الذي انشأ في المكان الفلسطيني ، فالـ هنا، تعني الوجود هنا، الوجود في الآنية، اي الكينونة، بينما الـ هناك تعني اشكالية الوجود،. وتتسع دالالة الـ الآن والـ هنا والـ هناك، عندما نربطها بالزمان والمكان، تحتوي الـ الآن على الـ هنا ، أي الزمن يتحدد بالمكان، بينما تحتوي الـ هناك، على الغد. أي الزمان يحدد
المكان.
لن نتطرق إلى مفهوم الآنية عند هايدغر، والتي اطلق عليها “الدزاين” التي تعني “الوجود هنا”، فهذا حقل كبير ربما لا تستوعبه مقالة صغيرة، ولكن ساحصر حقليهما المفاهيمي بالرؤية البصرية، وهو ميدان اشتغلت عليه الفلسفة كثيرًا ابتداء من هاديغر وحتى ميرلو بونتي، واستمر حقل الرؤية يتسع، في حقول معرفية وفلسفية وفنية كثيرة.
ساعالج موضوع الآن وهنا، الآن وهناك، من خلال فن الرؤية، أعني كيف نبصر؟ ولماذا نبصر؟ ولتوضيح الأولي كيف نبصر،أن الأشياء الموجودة في الواقع تنتمي الى ما يسمى نقديا، بالواقعية المباشرة، وهذه الأشياء، تباشرنا الرؤية من غير قصدية معينة لنا،هذه الشجرة التي اشاهدها، وباعتبارها واقعية مباشرة، تدخل رؤيتي من دون أي قصيدية مني لرؤيتها، وبذلك تكون الشجرة في الآن وهنا، بمعنى انها، موجودة ضمن اللحظة التي فرضت رؤيتها، وفي المكان الذي يحدد وجودها، الصورة الآتية منها لتدخل عيني، صورة خارجية، تسلط الضوء على عيني فأراها. هذه حال أولى للرؤية لـ”هنا والآن”. وهي رؤية خارجية لا تأثير لي فيها.
الحال الثانية للرؤية ، ليست بالطريقة التي باشرت الشجرة فرض رؤيتها على عيني، لا، إنما أنا الذي فرض رؤيته على الشجرة، وعندئذ تكون رؤيتي بقصدية الرؤية للشجرة، وهذه القصدية تعني أنني وضعت الشجرة تحت رؤيتي المقصودة، بغية معرفة، نوعيتها، ووجودها، وشكلها، وموقعها، وطبيعتها...الخ. القصدية التي أباشر بها الشجرة، تصدر من داخلي، من الدماغ باتجاهها، وليس كما كانت الرؤية تصدر من الشجرة باتجاه دماغي، في الرؤية الثانية، المقصودة لابد من البحث عن غرض ما لي فيها، كأن اتفحص قشرتها لأعرف نوعية خشبها، فأنا نجار، أو ثمارها، فأنا مزارع، او البحث عن هويتها، فأنا تاجر، أو الكشف عما تختزنه، فأنا باحث، وستتغلغل رؤيتي القصدية بعيدًا، ساستحضر ما يشابهها، من اشجار، فأنا مهندس زراعي، وسأحث عن مرجعياتها، عن متعلقاتها، ومواسم خضرتها، وقد اتغلغل بعيداً فأكشف عن طريق الرؤية الاستبطانية المتخيلة عن جذورها، عن اشتباكاتها هناك، وهذه الرؤية الاستبطانية معلومات سابقة تستحضرها الرؤية القصدية للشجرة، ثم لا يقف الأمر عند هذه الحدود، فأبحث عمّا وراء الشجرة من حيوات أخرى تبثها في الأرض وفي الهواء، فاعتبرها كائنًا حيًا وجد لغايات أخرى غير غايات الصورة المرئية، وعندما اتفهم آليات تشكلها يمكن ان اكتب عنها، عن وجودها المتميز بين الأشجار، عن التاريخ الافتراضي لها، عن رمزيتها الممثلة للحياة، والعطاء والمنح، فهي أم أيضًا، ولود، وموسمية، ولها صلة مثيولوجيا بتغيرالفصول وعودة الربيع وازدهار الثمر...الخ. كل هذه المنحنيات المعرفية نتيجة الرؤية القصدية التي تنطلق من داخلي في الآنية وفي المكانية كي أتفهم وأعي ان الشجرة جزء من الوجود هنا، وتكوين يمكن ان يمتد ليشكل كل الموجودات.
الرؤية الثالثة للشجرة في “الآن وهنا”، هي رؤية الشخص المُهلّوس، أو المريض، أو الشاعرالأديب، أو ذلك الذي يتوهم أنه يرى شجرة وهي غير موجودة، وغالبًا ما تكون هذه الرؤية غير مباشرة، رؤية على السرير أو في العيادة أو في الأحلام، أو في الإبداع، يفترض الشخص أنه يرى شجرة، او يرى اباه المتوف، أو صديقه الغائب منذ سنوات، هذه الرؤية المتوهمة، بالنسبة للشخص ، واقعية متجسدة، كما يسميها ليف لايكونس ومارك جونسن، ويروح يتحدث معها، ويصفها، وربما يكتب شيئا عنها، ألا تنطبق هذه الرؤية الوهمية على الشعراء والروائيين الذين، نتيجة خبرتهم الواقعية يتصورون أشياء متجسدة في مخيلتهم ليكتبوا عنها؟، وكأنها حقائق لواقعية مباشرة.( وترى الشعراء في كل واد يهيمون) أليست فعل الرؤية هي غير فعل الإبصار؟ هي الحلم، هي ما حكاه كلكامش لأمه ننسون عن رؤياه، التي تتكرر ثلاث مرات في الملحمة ليستخلص أنه “هو الذي رأى كل شيء فغن بذكره يابلادي”.
ينتج عن هذه الرؤية الثالثة أن يكون الزمان هو المكان، والمكان هو الزمان، فإذا تحدث الشاعر عن افعال تجري في الآنية، يكون المكان محددًا بـ”هنا”، وإذا كان يتحدث عن الماضي أو المستقبل، يكون المكان محددًا بـ”هناك، أو هنالك” وإذا تحدث الشاعرعن “ هنا” يكون الزمان “الآن”، وإذا تحدث عن “هناك” يكون الزمان ماضيًا وعن “هنالك”، يكون الزمان مستقبلا. أي أن للفنون المكانية ايهامًا فضائيًا ثانويا هو الزمان، ويكون للفنون الزمانية إيهام فضائي ثانوي هو المكان. هكذا نقف ثانية على أهمية الواقعية المتجسِّدة.
تنشأ تصورات العلاقات الفضائية من أجسادنا وأدمغتنا معًا مع الدَّخل البصري، وليست هذه التصورات كِياناتٍ موجودة موضوعيًا في الفضاء. ولكننا نشأنا بحيث نستطيع أن نستخدمها لفرض بنية تصورية على العالم تتيح لنا أن نشتغل بشكل جيد في هذا الفضاء الذي نعيش فيه.
“ الفلسفة في الجسد” . لايتم أي فعل إبداعي من الشكل الأول للرؤية، التي تكون خارجية حينما تفرض الأشياء حضورها على أبصارنا، أما الرؤية الثانية” الداخلية القصدية” فتكون الخطوة الأولى للإبداع،لأن مصدرها داخلي، وتكون ممهدة للرؤية الثالثة، الرؤية للواقعية المتجسدة في أدمغتنا وليس للواقعية المباشرة في الطبيعة، أي الرؤية الإبداعية عند الشاعرأو الفنان التشكيلي والروائي، وبذلك، نجد معنى الوجود هنا،أي الاستبصار لما يوجد والبحث بقصدية المعرفة عمّا وراء
ما يوجد.