المثاليَّة ونظريَّة الأشكال

ثقافة 2023/06/06
...

ترجمة: رامية منصور



أحد الأسئلة التي واجهت ولا تزال تواجه بعض فلاسفة العالم هو “ما هو الواقع؟”. يتناول أفلاطون هذا السؤال في عقيدته، نظرية الأشكال. في محاولة للإجابة على هذا السؤال، يشرح ما هي النماذج وكيف تؤثر في الطريقة التي يتم بها ملاحظة العالم. هذه الأشكال المزعومة هي أساس الواقع الذي ندركه. السؤال الذي يجب على المرء أن يطرحه على نفسه هو ما هي هذه الأشكال، ومن أين تأتي، وكيف تؤثر فينا كمجتمع.
الشكل الأفلاطوني (الفكرة) ليس فكرة في عقل شخص ما ولكنه شيء موجود في حد ذاته كجزء ثابت من بنية الواقع. هذا الإعلان هو أساس فلسفة أفلاطون. كان يعتقد بأنه إلى جانب العالم المادي الذي نعيش فيه والذي نختبره، ثمّة عالم آخر، عالم أبدي من المفاهيم، أو الأشكال. هذا العالم الأبدي أكثر واقعية من العالم الذي نختبره من خلال الحواس (أو المعرفة التجريبية -المعرفة القائمة على حواسنا)، وهو موضوع المعرفة، المعرفة الخالصة، وليس الرأي.

ما يعنيه أفلاطون بالأشكال هي النماذج الأصلية الأساسية للأشياء، التي لها وجود أبدي، يدركها العقل، وليس الحواس، لأن العقل هو الذي يرى “الوجود الحقيقي، بلا ألوان، بلا أشكال مميزة، وغير قابلة للمس، وهي وراء الطريقة التي نرى بها العالم. بمعنى آخر، أنها تتحكّم في الصور والأفكار التي يتم تقديمها لنا.

مثالان على هذه الأشكال هما (الجمال المثالي) و(الخير المطلق). عندما يُدلي شخص ما بتعليق مثل “هذا منزل جميل”. ما الفرق بين المنزل الجميل والمنزل غير الجميل؟ يوضح أفلاطون عبر هذه النقطة الكيفية التي تعمل بها الأشكال كمعيار نقارن به العالم.

تعمل هذه النماذج، في جوهرها، مثل عصا قياس نصدر بها أحكامنا. في ما يتعلق بصيغة الخير المطلق، يصف أفلاطون هذا الشكل بأنه الشكل القوي. هنا يقترح أفلاطون أن الأشكال الأخرى تستمد معناها من شكل الخير المطلق. لا يمكن رؤية الأشكال ولا يمكن الشعور بها. ومع ذلك، يمكن للعقل إدراكها. يمكننا رؤية آثار هذه الأشكال في العالم المادي، آثارها فقط، مثل الظلال على جدار الكهف.... وعندما نرى ظل شكل مثل “العدالة الحقيقية”، فإننا لا نراه أبدا في شكله المثالي (دائما ما يكون غير كامل ومشوه) كنسخة غير واضحة (على سبيل المثال، الشخص الجميل هو نسخة من الجمال). يمكننا أن نقول عن شخص ما إنه جميل لأننا نعرف فكرة الجمال الواسعة وندرك أن الشخص يحمل من هذه الفكرة جزءًا يزيد أو ينقص لكنه يحمل من المعنى الجمالي لها فهو بالتالي جميل.

إن المعرفة تبحث عن حقيقة الوجود، تبحث عن الحقائق الأساسية للطبيعة، عن حقائق الأشياء, جواهر الوجود، كالجمال والخير، التي تجعل من الممكن بالنسبة لنا أن نحكم على الأشياء على أنها جيدة أو جميلة، وهذه هي أشكال أو أفكار أبديّة.

أما العلم فهو مجموعة من الحقائق الكونية والضرورية، وكل علم له أهدافه، ويجب أن تكون لأهدافه هذه أشكال. لا شيء آخر غير الأشكال الأبديّة غير المتغيرة يمكن أن يكون أهدافًا للمعرفة العلمية.

يتكون العالم الأعلى من جوهر غير مادي وأبدي ندركه من خلال أذهاننا. الشكل هو جوهر أبدي وغير قابل للتغيير وكوني (لديه وجود موضوعي أو خارج العقل). ما نواجهه في العالم المادي هو أمثلة غير كاملة على المطلقات التي لا تتغير مثل الخير والعدالة والحقيقة والجمال الموجودة في عالم مثالي لا مكاني. العالم الأعلى أكثر واقعية بالنسبة لأفلاطون من العالم المادي، بقدر ما تكون الأشياء الخاصة الموجودة في عالم الأجسام نسخًا من الأشكال، تصبح المعرفة الحقيقية ممكنة فقط عندما نركز على النماذج.

لكن أين توجد الأشكال؟ إن للأشكال وجودا مستقلا لكن ليس لها بعد مكاني. كانت النفس البشرية على دراية بالأشكال قبل أن تتحد مع الجسد. في عملية الخلق، استخدم Demiurge أو الله الأشكال في تشكيل أشياء معينة، مما يشير إلى أن الأشكال كان لها وجود قبل تجسيدها في الأشياء. يبدو أن الأشكال كانت موجودة في الأصل في “عقل الله” أو في المبدأ الأعلى للعقلانية، الواحد أو الأوحد.

كيف نعرف الأشكال؟ هنالك ثلاث طرق مختلفة يكتشف بها العقل الأشكال: عبر التذكر. قبل أن تتحد مع الجسد، كانت الروح على دراية بالأشكال. يتذكر الناس الآن ما عرفته أرواحهم في حالة وجودهم السابقة. الأشياء المرئية تذكرهم بالجواهر المعروفة سابقا. التعليم هو في الواقع عملية تذكر. يصل الناس إلى معرفة الأشكال من خلال نشاط الجدلية: قوة تجريد جوهر الأشياء واكتشاف علاقات جميع أقسام المعرفة ببعضها البعض.

يستخدم أفلاطون “رمزية الكهف” كوسيلة لشرح نظريته. يصف أفلاطون في قصته العديد من الأفراد الذين سجنوا داخل كهف “منذ الطفولة”، وقد قيدت أعناقهم وأرجلهم بطريقة تمنعهم من “قلب رؤوسهم”. هؤلاء “السجناء”، بدورهم، يجبرون على التحديق في جدار الكهف المضاء بنار تقع خلف ظهورهم. ثم يذكر أفلاطون أن محركي الدمى أمام النار يسقطون ظلال “المنحوتات أو الدمى” المختلفة على الحائط أمام السجناء، وعند القيام بذلك، يقول أفلاطون إن السجناء يعتقدون بمرور الوقت “ أن الحقيقة ليست سوى ظلال تلك الدمى”.

ثم يصف أفلاطون ما سيحدث إذا سُمِح لأحد السجناء بمغادرة الكهف والمغامرة بالخارج. يقول أفلاطون: “في الخارج يتعلم الفرد من واقع موجود خارج ظلال الحقيقة المرئية داخل الكهف. بمجرد السماح للسجين السابق بمشاهدة الشمس في الخارج، سوف يستنتج ويخلص إلى أن الشمس توفر الفصول والسنوات، وتحكم كل شيء في العالم المرئي، وهي بطريقة ما سبب كل الأشياء التي اعتاد رؤيتها”. هنا، يقدم أفلاطون قراءة لما يعتبره شكل “الخير” (الذي تمثله الشمس)، والذي يشعر أنه الأهم من بين جميع “الأشكال” المختلفة لأنه يمنح الحياة، وينير كل شيء داخل العالم المادي.

يختتم أفلاطون قصته بوصف ما سيحدث عندما يعود السجين السابق إلى الكهف ثانية. يذكر أفلاطون أنه عند عودته، فإن قدرته على التعرف على الظلال على جدار الكهف بطريقة مستنيرة “ستدعو إلى السخرية” من أقرانه السجناء. لأن السجناء الذين بقوا داخل الكهف لم يتمكنوا من المغامرة بالخروج. ويخلص أفلاطون إلى أنهم لن يكونوا قادرين على فهم أي شيء حاول السجين الآخر شرحه لهم.