دور الانتعاش النفطي في مفاقمة أزمة الجفاف

قضايا عربية ودولية 2023/06/08
...

 ساره مانيسيرا ودانييلا سالا
 ترجمة: أنيس الصفار                                            

في العراق تتسبب شركات النفط الغربية بمفاقمة شح المياه، عدا ما تحدثه من تلوث في خضم تسابقها لجني أقصى الأرباح من ارتفاع أسعار النفط في أعقاب
الغزو الروسي لأوكرانيا.
يقول الخبراء الدوليون: إنَّ شح المياه قد أدى حتى الآن إلى نزوح الألوف وتفاقم حالة عدم الاستقرار، حيث تضع الأمم المتحدة العراق في المرتبة الخامسة بين أشد البلدان تأثراً بأزمة المناخ. في جنوب العراق المجدب الغني بالنفط تحولت الأراضي الوفيرة المياه، التي كانت تمد مجتمعات كاملة بالغذاء،
إلى قنوات موحلة.
عمل مهدي مطير، 57 عاماً، صياداً للسمك طيلة حياته، وعلى مدى السنوات كان مهدي وزوجته يستيقظان مع الغسق ليقطعا بزورقهما تشابكات كثيفة من القنوات في منطقة الخورة، التي تقع شمال البصرة ببضعة كيلومترات. كان حصادهما متواضعاً ولكنه كافٍ لتأمين الطعام للعائلة المكونة من سبعة أفراد.
إلا أنَّ الحال تغير في العام الماضي. واليوم، حتى في ذروة موسم المطر، ترى زورق مهدي مطروحاً محاصراً بالوحل من كل جهة.
يعلق مهدي على ذلك فيقول وهو يشير بيده إلى الدخان الأسود المتصاعد من حقل نفط الزبير الذي يلوح في الأفق: “محطة المياه التي انشأتها الشركة الإيطالية هي السبب فيما حل بنا .. فهم يحتاجون إلى الماء لحقول نفطهم.”
فمن أجل استخراج النفط تقوم الشركات بضخ كميات كبيرة من الماء إلى داخل الأرض، ومقابل كل برميل نفط، الذي يصدر كثير منه إلى أوروبا، تضخ ثلاثة براميل ماء في الأرض. ومع تزايد صادرات العراق النفطية أخذت مستويات مياهه تنخفض بصورة دراماتيكية.
الشركة الإيطالية التي يشير إليها مهدي هي شركة “إيني” متعددة الجنسيات للنفط والغاز التي كانت تعمل في العراق منذ العام 2009، ويظهر تحليل صور الأقمار الاصطناعية كيف أنشأت شركة “إيني” خلال السنة الماضية سداً صغيراً يقوم بتحويل المياه من قناة البصرة الى منشأة معاملة المياه التابعة لها ومنع مياه السيول الموسمية من الوصول إلى المنطقة التي كان مهدي يصطاد السمك فيها.
المنشأة القريبة الأخرى، التي يستخدمها عدد من شركات النفط من بينها “بي بي” و”إكسون موبيل”، مسؤولة ايضاً عن استهلاك ما نسبته 25 ٪ من مياه منطقة يبلغ تعداد سكانها 5 ملايين شخص.
المنشأة في كرمة علي، التي تقع على مسافة ثمانية كيلومترات إلى الجنوب من منشأة “إيني”، تديرها منظمة تشغيل الرميلة، وهي منظمة مؤلفة من شركات “بي بي” و”بترو تشاينا” وشركة نفط الجنوب العراقية. هذه المنشأة تستمد المياه التي تستخدمها بشكل مباشر من قناة عبد الله، التي تغير مجرى المياه العذبة بعيداً عن النهر قبل وصولها إلى شط العرب، وهو النهر المتشكل من التقاء نهري دجلة والفرات ويعد مصدر الماء الرئيس لمدينة البصرة.
في بيان لها صرحت شركة “إيني” أنها لا تستخدم المياه العذبة في عملها، بل مياه القناة المالحة والملوثة، لذلك فإنها ليست في وضع تنافس مع الاستخدامات الأخرى. بيد أنَّ صحيفة الغارديان اطلعت على الأرض وكذلك من خلال صور الأقمار الاصطناعية كيف تلتقي مياه القناة المغذية لكرمة علي مع مياه قناة منشأة شركة “إيني” في الخورة، التي لا تزال تحت الإنشاء، إلى الجنوب من المنشأتين بكيلومترات قليلة لتمضي بعد ذلك في طريقها إلى محطة تصفية المياه التي توفر 35٪ من مياه الاستخدام للعوائل في مدينة البصرة. أزمة المياه الوشيكة في العراق موثقة جيداً. ففي العام 2012 ذكرت “إدارة معلومات الطاقة” الأميركية في تقريرها أنَّ احتياجات العراق من المياه لأغراض استخراج النفط سوف تتصاعد بمقدار عشرة أضعاف. وأضاف التقرير أنَّ تلك المياه سوف يتم تأمينها من الطبقات المائية الجوفية في المنطقة بغياب البدائل، وهذا سيفرض منافسة مباشرة على احتياجات الزراعة والاستهلاك.
رغم كل تلك التحذيرات لم تتخذ إجراءات تذكر. وفي العام 2018 تسببت أزمة مياه حادة في المدينة بدخول 118 ألف شخص إلى المستشفيات، وفي أعقاب ذلك اندلعت احتجاجات غاضبة قذف فيها المتظاهرون المباني الحكومية بالقنابل الحارقة وقيل ان قوات الأمن ردت عليهم بالذخيرة الحية، ما أسفر عن مقتل خمسة
أشخاص على الأقل.
يقول “روبرت ميلز”، الرئيس التنفيذي لشركة “قمر للطاقة”، وهي جهة استشارية مستقلة، ومحرر تقرير العام 2018 بخصوص متطلبات حقن المياه في العراق: “ إنَّ حجم المياه المطلوب للحقن ليس كبيراً بشكل عام، ولكن في الواقع ان المنطقة تعاني من ضائقة مائية شديدة يمكن أن تسبب مشاكل خطيرة. ففي البصرة، التي تقاسي مشاكل مائية جسيمة، ينبغي على شركات النفط من حيث المبدأ أن توجد بدائل تغنيها عن استخدام المياه العذبة.”
البدائل موجودة. ففي المملكة السعودية، جارة العراق التي تواجه مشاكل مائية مشابهة وتعد ثالث أكبر احتياطي للنفط في العالم، تؤخذ مياه الحقن من البحر. أما في العراق فقد استغرقت المناقشات بشأن إنشاء مشروع للتزود بمياه البحر أكثر من عقد من الزمن دون أن تفضي إلى شيء. يقول ميلز: “وزارة النفط لا تمتلك التخصيصات المالية الكافية، وشركات النفط معرضة لتحمل التكاليف.”
لقد ارتفع إنتاج العراق من الخام إلى أكثر من ضعفين على مدى عقد وصولاً إلى العام 2019، ومن بعدها عاد فازداد عقب الغزو الروسي لأوكرانيا في العام 2022. في ذلك العام ازدادت صادرات النفط العراقي إلى أوروبا بنسبة قاربت40 ٪ .
في العام الماضي سجلت شركات النفط والغاز أرباحاً غير مسبوقة، حيث ضاعفت شركة “إيني” ما حققته في العام 2021 مرتين محققة صافي أرباح مقداره 17,9 مليار جنيه استرليني، في حين سجلت شركات “بي بي” و “إكسون” و”توتال للطاقة” هي الأخرى أعلى سنوات أرباح في تاريخها الحديث.
أما العراق فلم يشهد مثل هذا النمو، حيث جاء في تقرير البنك الدولي للعام 2022: “مؤشرات التنمية في العراق مشابهة لمؤشرات الدول منخفضة الدخل.”
يقول وليد الحامد، رئيس وكالة البيئة في جنوب العراق: “في العراق، وخلافاً لما تفعله في باقي الدول التي تعمل فيها، لا تبذل معظم شركات النفط الأجنبية شيئاً للحد من تأثيراتها البيئية. ففي نظرهم أن الاستمرار في تلويث البيئة أرخص كلفة.” تشرف الوكالة المذكورة على أعمال تفتيش حقول النفط وفرض العقوبات ازاء ما يحدث من ضرر بيئي.
تشير وثيقة اطلعت عليها صحيفة الغارديان أنَّ شركتي “إيني” و”بي بي” كانتا من بين الشركات المدرجة على قائمة الغرامات، ولكن كثيراً من تلك الغرامات لم تدفع قط، على حد قول الحامد.
إحراق الغاز الطبيعي المصاحب لعمليات استخراج النفط مصدر قلق جدي هو الآخر. ففي العام 2018 فاقت كميات الغاز الذي أحرق في البصرة ضمن دائرة نصف قطرها 70 كيلومتراً ما احرقته السعودية والصين وكندا والهند مجتمعة.
في السنة الماضية، وفي الزبير وحدها، أحرق ما مقداره 2,5 مليار متر مكعب من الغاز، وفقاً لبيانات البنك الدولي، رغم ادعاء شركة “إيني” في تقريرها السنوي للعام 2021 بأنَّ الشركة كانت مسؤولة عن أقل من نصف هذا الرقم على نطاق العالم ككل.
أوضحت شركة “إيني” في بيان لها أنها ليست المشغّل، ولا المتحكّم بستراتيجية العمل في الحقل ولا هي من يتحمل مسؤولية الحرق، رغم قيادتها لتجمع الشركات العاملة في حقل الزبير، فالأمر كله مناط بشركة نفط البصرة.” تقول “إيني” ايضاً إنها ليست مسؤولة عن الغرامات التي توقعها وكالة البيئة وإن تلك الغرامات يجب أن تدفعها شركة نفط البصرة التي تدير العمل في الحقل المشار إليه.
أضافت الشركة أن شروط العقد تعفيها بكل وضوح من المسؤولية عن عملية الحرق أو مشاريع خفض الحرق أو التعويضات المجتمعية، على حد قولها.
شركة “بي بي” تقول إنها هي الأخرى غير مسؤولة عن الغرامات المدرجة في الوثائق، وإن الحقل المشار إليه تديره “منظمة تشغيل الرميلة”، وهي شركة أسستها وتمتلك 47,6 ٪  من أسهمها.

* عن صحيفة الغارديان