هل الكتابة عن التاريخ الراهن لا تستحق التلقّي؟

ثقافة 2023/06/12
...

  علي لفتة سعيد

يعتقد البعض أن الكتابة عن الزمن الراهن أو التاريخ المعاصر لا تكون مقبولة ولا تحمل معها سمة النجاح أو الترويج والتقبّل، لأن المتلقي يعرف الكثير عن هذا الزمن وهو جزء منه.. لكن البعض الآخر يعتقد أن الأديب ربما اقرب إلى أرخنة صراع الراهن بكل مستوياته، كونه لا ينطلق من أنه باحث ويؤرخ لمرحلة باعتباره خاليا من التوجه الخاص، سواء كان سياسياً أو دينياً. لذا فإن السؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل الأديب السارد -من منطلق أن الشعر ابن المرحلة ذاتها- ليس عليه الخوض في تاريخ معاش...؟ أم أن عليه وهو المبدع هنا أن يكشف عن تفاصيل لا يراها غيره، وهي -أي الكتابة- تشبه من يذهب إلى عالم سفلي لاستخراج ثيم غير مرئية ويقدمها للمتلقي؟
الواقع والخيال
المترجم والكاتب كامل عويد العامري يقول: إنَّ عمل المؤرخين يتكون في البداية من تجميع آثار الماضي - نصوصا أو أشياءً أو شهاداتٍ.
ثم يتم توضيح الحقائق المؤكدة أو القرائن المتوافقة.
ومن ثم، فإن إعادة بناء الماضي تتغذى على قدرة الباحثين على تقديم سرد مقنع لوضع سياق لوثيقة أو حدث ما أو حتى إعادة حقبة كاملة إلى الحياة.
ويشير الى أنه بماذا يمكن أن تكون المطالبة بإعادة بناء الماضي هل هي مطالبة “تفسيريَّة”؟ وأي نوع من التفسير هذا؟
التاريخ المتقاطع، ومساهمة العلوم التجريبيَّة، التاريخ المضاد، التاريخ البيئي؟ هناك مجموعة متنوعة من الأساليب والتخصصات المستخدمة اليوم لكتابة التاريخ.
وعليه تدعونا هذه الأسئلة إلى التفكير في بناء الخطاب التاريخي في وقت، بين “الأخبار المزيفة” والإيقاعات الإعلاميَّة المحمومة، بما يطرحه “الحقيقي” من أسئلة كثيرة.
ويرى على صعيد الأدب والرواية تحديدًا بوصفها الوعاء الذي يمتزج فيه الواقع والخيال، فما على الكاتب أن يكتب التاريخ، يرويه، ويرسمه، ويصوِّره، ويمثله، ويغنّيه، أو حتى يتخيله، ويشوّهه، ويشكّله، ويعيد تشكيله ومن ثم يفكر فيه، ويعيد التفكير فيه بالطريقة التي كُتب بها.
ومن خلال الكتابة نفسها، في كل مرة يعيد التفكير في مسألة معناه، ولكن أيضًا في مجالاته.
سواء بما جرى إثباته، بما “حدث بالفعل” كما يقول المؤرخون الوضعيون، ولكن أيضًا بما تدمج فيه من تمثلات الماضي، والاعتراف بأشياء مشروعة قدر الإمكان، ومن ثم من خلال قطع الحدود في الحقل اللامتناهي للواقع - فحص في كل لحظة ما يسمى بالتاريخ.
ومن ثم يقول العامري: إنَّ مراجعة كتابة التاريخ تهدف إلى أن تكون فضاءً لالتقاء تواريخ التاريخ وعلوم التاريخ، وأيضًا لجميع الممارسات الرمزيَّة التي تأخذ التاريخ بوصفه مادة طموحة في الجمع بين طرق تمثيل التاريخ من هنا أو من هناك، من الحاضر أو من الماضي، طرق أيضًا لاستخدام التاريخ والوظائف والاستخدامات، في وقت، فيه المجتمع مهووس بالتراث والذاكرة، لفهم التاريخ في “تنوعه غير القابل للشفاء” وفي مستقبله.

جمرة الإبداع
أما الأديب العراقي عبد الأمير المجر فيرى أنّ الأدب المهم هو الذي يكتب بعد أن تستوفي الأحداث مقاصدها المرحليَّة وتصبح في ذمة التاريخ، قيل فيه الكثير، وقيل أيضا، أن أدب الحرب الكبير يكتب بعد انتهاء الحرب!! للموضوعيّة، لا يخلو هذا الطرح من الصدق لكنه لا يختزل الحقيقة أو لا يعبّر عنها بشكل دقيق.. ويرى أنّ الأحداث مهما طالت تبقى قصيرة في بحر الحياة، وقد لا تنتهي وإنما تحسم بشكلٍ أو بآخر لصالح الأقوى أو الأكثر تأثيرا ونفوذا.. ويشير إلى أن الأديب إنسان وسط المجتمع، يعيش تفاصيل الحدث ويرصدها، لكن برؤية أوسع وحساسيّة أكثر، ويبيّن أنه إذا كان الشاعر أو السارد يقتنص من حدث ما عابر، وفي أي وقت، فكرة معينة ويصوغها على شكل قصيدة أو قصة، فلماذا لا يكون كذلك وهو يعيش أهوال أحداث كبيرة وطويلة ومتشعّبة وينغمس بكل مشاعره بينها، ويتأثر بها؟
ويجيب أنه بلا شك أن من يمتلك الأدوات الكاملة يمتلك القدرة على التعبير عن مشاهداته تلك ويترجمها نصّا من دون الحاجة للانتظار، لأنّ اللمسات الإنسانيّة التي يتركها أيّ حدثٍ مهما كان صغيرًا وعابرا، تحفّز مخيلة المبدع على صناعة نصّه منها.. ويفسّر ذلك أن الأديب المبدع يستطيع أن يقدّم إبداعًا كبيرًا ومهمّا أثناء الأحداث ولا ينتظر انتهاءها، وإن كان انتهاء الحدث يجعل الوقائع تتجلّى أمامه أكثر بفعل تداعياتها الانسانيّة.
ويشير الى أنّ النصّ الذي يتناول الجندي بوصفه إنسانًا مأزومًا في الميدان، له قوّة النصّ الذي يتناول زوجة الجندي وأطفاله وقد تركهم وراءه ورحل، حين يجعل المبدع من مأساتهم متّصلة بالحرب التي انتهت! والأمر كذلك مع الأحداث ذات الطابع التراجيدي الحاد كالكوارث الكبرى التي تصيب الناس، أمثال الزلازل والمجاعات وغيرها.. ويرى على الصعيد الشخصي كأديب، قرأت أثناء الحرب نصوصًا قصصيّةً هزّتني بما انطوت عليه من جمال فني وتصوير رائع ولغة راقية، وكل مقومات النص الجيد، مثلما قرأت ايضا نصوصًا زامنتها (تعبوية وغير تعبوية) لم تنطو على شيء مهم، ولم تستقر في الذاكرة.
وكذلك قرأت بعد الحرب نصوصًا كانت رهن مبدعيها ولم يضف لها انتهاء الحدث شيئا أو ينقص ايضا.. ويرى أن المبدع يكتب إبداعًا في كل الظروف، ولعلنا شهدنا كيف أن أجمل النصوص التي عالجت مأساة الحصار في التسعينيات، كتبت اثناء الحصار ولم ينتظر المبدع العراقي نهاية تلك الازمة ليكتب عنها.. وينتهي إلى القول في أن الإبداع جمر في الأعماق يتّقد أكثر حين تكون تلمسات المبدع عميقة وتوازي دقة مشاهداته، ورؤيته الناضجة للحياة بوصفه مثقفاً أيضا وليس مبدعاً فطرياً فقط، وقد صقل نفسه بالقراءة وشذّب موهبته بتأملات عميقة تجعله مثيرًا وملفتًا للانتباه باستمرار وفي كل الظروف.

التاريخ والكتابة
الكاتب العراقي محمد يونس محمد يتجه منذ البدء إلى المنطق اللساني، ومن خلاله نفصل ما بين اللغة في الشكل الاجتماعي المتصلة بالتاريخ بشكل مباشر، وما بين لغة الأدب التي تتصف بآنيّة وتزامن، وتثبت جدارتها وحقيقتها من خلال زمن الكتابة والمعطيات الواقعية والبعد العضوي، لكن تلك المزامنة وتلك الآنية بعد مدّة من الزمن تخرج من أفقها العضوي أفق الذاكرة والتاريخ. ويعبر من كونه نسبيا ضد النظرية التي تفصل بين الشعر خصوصا وبين التاريخ، إذا لم يعد هناك آنيّة كتابة او آنيّة تلقي للنص الادبي، والنص في التاريخ ليس هو النص في الآنيّة بالتحديد، فقصيدة المتنبي اذا قرأنا في كتاب اشعار له لا يمكن فصلها كليا عن التاريخ، وحتى اذا كانت لحظة القراءة والتلقي تحيلنا إلى أفق آنيتها، وفي تفسير فلسفي نجد التاريخ والادب يتبادلان الأدوار لا من خلال المتون الأدبية، وانما من خلال تاريخانية الأدب، فالمعري وشكسبير ودانتي وميغيل دي سيرفانتس هم متون التاريخ الأدبي، ومثلما لا يمكن فصلهم عن الأدب لا يمكن فصلهم عن التاريخ. ويسير الى أن الفصل اللساني يتّسع اكثر، فلكل جنس أدبي لغة خاصة به، بالرغم من تجسد نظرية تداخل الأجناس، وتلك اللغة هي التي تجسّد إطار الكتابة والجنس، فالجنس ساكن في متن التاريخ ونحن من نقوم بتحريكه عند الكتابة، وفي التحدي للإطار والجنس لا تدخل لغة جنس بشكل مباشر أزاء لغة جنس آخر، إلّا إذا كان هناك توظيف فنّي لها، لا يطرأ على تبديل لغة على أخرى أبدا.
لكن يستعير حسّ جنس لغة في إطار الكتابة بجنس مختلف، فالكتابة السردية خصوصا في جنس القص تستعير الحس الشعري، ولا يكون هناك استبدال لغة جنس محل لغة جنس آخر، وكذلك عندما يكون العكس. ففي الشعر المعاصر هناك أفق حكاية بصياغة شعرية، وليس هناك سرد بمعناه الفعلي، وفي التفسير المنطقي للأدب قامت اللسانيات بفرض ذلك التحديد لصالح الأدب والأجناس. ونحن بحاجة الى منطق فعلي نستند إليه في الكتابة النقدية، وبحزم موقف مع المنطق العقلي وأفق المفهوم له. ويرى يونس أن ثمة فارقًا كبيرًا ما بين المنطق التاريخي للجنس الأدبي ولحظة الكتابة وتفسرها الخاص، فالتاريخ يحيلنا الى الثوابت التي اعتمدت في الاجناس الأدبية، فيما لحظة الكتابة انفلتت من الواقع الاجتماعي، ودخلت عضويتها في زمن خاص بوقت الكتابة، لكن الزمان لا يدخل في باب التخصيص الزمني، فهو الذي يدور في فلك التاريخ وتتوالى السنين والشهور والايام عبره .

تدوير الآداب
الشاعرة السورية ريم البياتي تسأل ماذا لو أغلقت عينيك وأنت تسافر إلى مكان لن يتسنى لك رؤيته ثانية؟ أليس هذا يشبه القول: إن على الأدباء ألّا يكتبوا عن زمنهم! وتسأل مرة أخرى. هل ستنام أعمارنا كي نعبر مرحلتنا الزمنية، ثم تصحو لنكتب عنها؟ أليس بديهياً أن كل ما وصلنا من آداب وسير كُتب في زمانه؟ وترى ان الشاعر يمتلك رؤية للأحداث التي تقع في زمنه تختلف عن رؤية الإنسان العادي، ويستطيع أن يقدمها بطريقة تجعل المتلقي الذي يعرفها يُدهش ويراها من زاوية لم تكن في مرمى نظره. وتؤكد أنها ليس مع القائلين إن الشاعر يتنّبأ بما سيحدث، وإن ما كتبه الأولون يصلح لعصرنا هذا، أو بالأحرى يتحدث عنا! وترى أن الشاعر لا يعلم الغيب، لكننا نحن الذين مازلنا نتخبط على الأصعدة كافة منذ قرون، لم نتقدم، بل نعود القهقرى، ولذلك نجد أن أي عباءة نسجها شاعر منذ ألف عام، مازالت تليق بأكتافنا.
وتعود للسؤال.. ماذا سيكتبون لو توقف الشعراء عن الكتابة عن زمنهم؟ هل يعيدون تدوير آداب الزمن الماضي وبعثها في حلة جديدة، فيقعون في التكرار؟ وتجيب إذا فعلوا، فهم يطرقون أبواباً صدئت مقابضها، ولن يخرجوا بجديد. وتعتقد أنه لا يوجد إنسان سواء كان شاعراً أم مؤرخاً أم سياسياً، يستطيع أن يكتب أو يتخذ موقفاً من أيّة قضية اجتماعية أو سياسية في حياد مطلق، فتلك هي طبيعة البشر، ولكن يستطيع الشاعر أن يتناول قضاياه المعاصرة بطريقة أعمق تبتعد عن الوصف المباشر، الذي هو كلام العامة، فالشاعر لاعب يحرّك الكلمات ويرصفها ببصيرته وخياله. وينفخ فيها تلك الروح التي تمتُّ إلى الخلود بصلة.
أما قضية التاريخ، فتراها تحتاج إلى زمن طويل يمرّ على الحدث، فالأحداث تشبه بحيرة حدث فيها زلزال حرّك ماءها وعكّره بشدة، وحدثت تغيّرات كبيرة في القاع، ولا بدَّ من الانتظار زمناً كافياً، ليهدأ ماء البحيرة ويصفو، لنستطيع رؤية القاع. فالتاريخ لا يصف سطح البحيرة، ولكنه يُعنى بتلك التصدعات التي حصلت في القاع. وتعتقد من جديد أنه على الرغم من ذلك، فإن التاريخ يكتبُ أغلبه الذين لم يروا البحيرة، ولكنهم سمعوا ما قاله المستثمرون وأطاعوا! وإلا... لماذا مازلنا نُقتل بأقوالهم؟ وتشير الى ان اقتراف “جريمة” الكتابة، أمر يستحق العناء، وعقوبته الخلود.

الأفكار والتاريخ
أما الاديبة السورية ليلى صعب فترى أن تعايش الأدب والتاريخ جنبا الى جنب منذ بداية التاريخ البشري، فلا بدَّ لكتابة التاريخ من أسلوب أدبي فني مهما كان جافا وواقعيا، أما الأدب فطالما استلهم من التاريخ وجعل منه إطارا متخيلا لأحداثه سواء كان سرديا أم شعريا، ولعل كثيرا من الأحداث التاريخية وصلت إلينا عبر نصّ أدبي قبل أن تصل عبر مؤرّخ أو وثيقة، بغض النظر عن دقتها وما تحمله من عصبية أو تعصب لفريق على حساب آخر، أما في العصر الراهن ومع ازدياد الأحداث تداخلا وتعقيدا وتعدد أطراف الحدث سواء كان حروبا او نزاعات أو حتى متغيرات اجتماعية وانزياحات فكرية للأمام او حتى للخلف بتأثير من التيارات المتشددة او أصحاب النزعات السلفية، فالأسئلة مشرعة على بوابات مختلفة. وتتساءل صعب الى أي حد يمتلك الأديب الشرط الموضوعي كي يكون مؤرخًا عبر قوالبه الفنية الإبداعية المختلفة بعيدا عن ميوله وأفكاره السياسية؟ ثم هل هناك أدباء يمتلكون الحياد الفكري الكافي للتاريخ للمرحلة سياسيا ودينيا واجتماعيا من دون محاباة وتعصب؟ وبحسب اعتقادها فإنها تميل الى وجود عدد كاف من هؤلاء وخاصة ان الأديب تاريخيا يلجأ الى الإطار التاريخي لتمرير أفكار لا يجرؤ على طرحها في إطارها الزمني الحقيقي فيخلق لها عالمًا تاريخيًا متخيلا، ويلبسها إسقاطات معاصرة يعبر من خلالها عن رفض الظلم والثورة على الجمود والتوق الى المثل العليا وغيرها من القيم، مع ملاحظة أن الحقيقة اليوم تعتريها الضبابية ويجد كل طرف من يؤيده ويسانده فكريا في ظل وسائل التواصل الاجتماعي والكتابة المتاحة للجميع، وتناقض المصادر، وبحسب وجهة نظرها فإن الأديب الذي هو الأقدر على تحليل الواقع واستشراف المستقبل من مفرداته واجتراح الحلول والأفكار الصحيحة، شرط ان يتاح له الظرف الموضوعي والقدر الكافي من الحرية الفكرية التي تمكّنه من التعبير عن رؤاه من دون ضغط أو تملّق استنادا الى الضرورة الفنية للجنس الأدبي والرؤية الفكرية فقط، ويمكن لما يستخلصه ويقدمه أن يسهم في صياغة وتغيير وبلورة فكرة أكثر وضوحًا ومنطقية لدى المتلقّي الذي يشترك معه في معايشة المرحلة ويعرف الكثير عنها، ويتفوّق عليه لجهة العمق والاحاطة الدقيقة، وترى أن الادب يحقّق أحد أهم أهدافه في نقل الواقع ولكن من بوابة الإبداع والتحليل والاستنتاج.

تابوهات الكتابة
ويعترض الأديب العراقي عامر حميو على مقولة أن الأديب خالٍ من التوجّه الخاص سواء كان سياسيا أو دينيا لأن انتماءات الإنسان حزمة عواطف وولاءات شكّلها الذهن نتيجة الاختلاط في المجتمع للإنسان البسيط، لكن الوعي ارتقى بها في النخبة، والأديب أحد مكونات تلك النخبة، وعليه فإن الأديب منحاز ضمنياً تحت رقابة الوعي.
ويعطي مثلاً: الروائية الأمريكية (هيري ستو) التي كتبت رواية (كوخ العم توم) عام 1852 والتي يقال إن روايتها هذه وضعت الأساس للحرب الأهلية الأمريكية، إذ كانت ستو تعيش زمن عبودية العرق الأسود من قبل بيض أمريكا، وكان الحدث ساخنًا ولم تظهر نتائج لنهاية هذا الخرق الإنساني، لكن الكاتبة لم تنتظر صناعة نهايته من قبل غيرها وانحازت لقضية الزنوج كاتبة كوخ العم توم في وقت كان فيه المجتمع الأمريكي منقسم بين مؤيد لنظام الفصل العنصري ومعارض له، والأمر ينطبق تماما على مسيرة الأدباء في كل العصور، ولم ينته انحياز الأديب لقضايا شعبه الراهنة طيلة عهد كتابة السرد من انقسام النخبة قبل المجتمع حول أحقيته في هذا الانحياز أو بطلانها، لكنها ظهرت كردّة فعل سريعة في عصر العولمة وتحوّل المعمورة إلى قرية صغيرة، يؤثر فيها صوت عال ينشر وجهة نظره عبر الفضاء الافتراضي ويجد من يطبل له ويهلل، فيكون ذلك الرأي غالباً حتى يرد عليه الرأي المعارض له فيخبو البريق قليلاً. ويعتقد ان هذا يستنتج منه أن الرواية وجدت لتُحيي المسكوت عنه والمنسي أو ما يراد له أن يُنسى، ولو تمعّنا قليلاً في هكذا رأي لوجدناه لا يخرج عن اشتغالات السرد بتابوهات الممنوع والعيب والحرام، وكل مشكلات الشعوب، ماضياً وحاضراً، محصورة بين الأضلاع المتساوية لمثلث هذه التابوهات، ويضع حميو افتراضا أننا جرّدنا الروائي منها أثناء التدوين فإننا سنكون أزاء رواية تنشغل بتهويمات الذات ونرجسيتها، وسينزاح ذهن المتلقّي لصورة الشخصية المنعزلة من دون هموم مجتمعها والتي تحمل ضمنيا دعوة (الفن للفن) لتجريد هذا السلاح الذهني الفعال من خدمة الآخرين، فيما الحقيقة أن كل أجناس التفكير وجدت للمجتمع، ولذا وبحسب قوله ان القلم الأدبي وجد لخدمة دين (الفن للمجتمع) كما فعل قلم هيري ستو وانحاز لقضية مجتمعه وقتها، شريطة أن ينزّه السرد من أسلوب الخبر الصحفي وتقرير الخطابات الانشائية، ويذوب في التفاصيل الدقيقة لانعكاس المشكلات الراهنة على حياة الأفراد في مجتمع الكاتب.