النخلة في العراق القديم
ناجح المعموري
إن أقدم ما عرف عن النخل كان في بابل التي يمتد عمرها إلى نحو أربعة آلاف سنة ق. م. وهناك آثار لهذا الشجر في مواضع مختلفة منها، ولا يستبعد أن يكون النخل معروفاً ومألوفاً قبل ذلك التاريخ. فمدينة أريدو الواقعة على مسافة [12] ميلا جنوب أور، والتي تعتبر من مدن ما قبل الطوفان، كانت قائمة من أوائل الألف الرابع ق. م، وقد ثبت كونها منطقة رئيسة لزراعة النخل، إذ كانت حين ذاك على مشارف الأهوار. وكانت النخلة مقدسة عند السومريين والأكديين لأهميتها المعاشية الاقتصادية. ومما يثبت توغل النخل في القدم بجنوب العراق، كما أن العلامة المسماريَّة التي كان يكتب فيها النخل؟، بدأت في كتابات عصر فجر السلالات [3000-2400] ق. م.
وظهرت النخلة في الأختام الأسطوانيّة، ويرجع تاريخ أقدم ختم إلى العهد السومري حيث ترى النخلة المقدّسة وقد تدلى منها عذقان وفي كل من جهتي النخلة تقف امرأة مادة يدها نحو العذق مع أنّها تحمل عذقاً بيدها الأخرى.
كما ترى إحدى المرأتين تناول العذق الذي في يدها لامرأة ثالثة. والمرأة الثالثة تمد يدها اليسرى لتسلم العذق في حين أنها تحمل عذقاً آخر. كما تشاهد نخلة أخرى صغيرة تحمل ثمرها مع شجرتين إلى جانبي النخلة الكبيرة، ويشاهد أيضاً طيران هما أشبه بالبط، وكذلك هلال كناية صورية لاسم ناقش الختم. ويبدو ـ كما قال العالم أحمد سوسة ـ بأن الختم يمثل إلهة بساتين النخيل أو إلهة الزراعة وهي تقدم الثمر المتمثل بالمرأة التي تتسلم عذق التمر وتعتبر النخلة علامة تدل على الألوهة المؤنثة/ الأم الكبرى في بلدان عديدة في منطقة الشرق الأدنى القديم والتي عرفت زراعة النخل. وصارت معبوداً في بعض الديانات وتمتعت بقداسة كبيرة، واستمرت هذه القداسة في الديانات التاريخية والشمولية كما سنرى لاحقاً.
كان الآشوريون يقدّسون أربع علامات/ رموزاً دينيّة وإحداها النخلة/ والمحراث/ والشجرة المقدسة/ والثور، وعثر على هذه الرموز منقوشة على تاج وضع في أعلى محراب يعود إلى عصر [أسر حدون 680- 669] ق. م. ومما يثير الدهشة والغرابة أن ما ورد في التوراة عن قصة آدم وحواء وحكاية جنة عدن والطوفان ترتد جذورها إلى عهود قديمة. فهذه القصة بذاتها نجدها متمثلة على ختم سومري نشاهد فيه رجلاً على رأسه قلنسوة ذات قرنين وامرأة من دون لباس الرأس جالسين الواحدة قبالة الآخر، وقد نبتت شجرة بينهما تشبه النخل، تدلى عذقان من التمر من طرفيها، ويشاهد الرجل ماداً يده اليمنى نحو العذق الذي أمامه ليقطف من ثمره، كما تشاهد المرأة وهي مادة يدها اليسرى نحو العذق الذي أمامه لتقطف من ثمره أيضاً ثم يشاهد الحية وهي منتصبة واقفة خلف المرأة تغريها في الأكل من هذه الثمرة المحرّم عليها أكله. وهذا دليل على أن شجرة النخل زرعت في العراق منذ أقدم الأزمنة، وأن شجرة معرفة الخير والشر الواردة في التوراة هي شجرة النخل. ويذكر بأن هذا الختم الأسطواني وضع قبل تدوين التوراة بأكثر من ألفي عام على أقل تقدير، لأنّ التوراة لم تسجل بنصها الحالي إلا في عهد متأخر، أي في القرن الثامن والتاسع ق. م. لقد ترجم سايس بعض النصوص القديمة عن النخلة منها: إن الشجرة المقدسة التي يناطح سعفها السماء/ وتتعمّق جذورها في الأغوار البعيدة هي الشجرة التي يعتمد عليها العالم في رزقه. فقد كانت بحق ـ شجرة الحياةـ .وتمثلت بأوقات مختلفة في هياكل بابل وآشور. ففي بابل، كانت النخلة المقدسة تزين ردهات المعابد الداخلية ومداخل المدن وعروش ذوي التيجان. فآلهة النخل ظهر على هيئة امرأة ينتشر على أكتافها السعف كالأجنحة.ولأهمية النخلة في الحياة الدينية والاقتصادية أشارت لها التشريعات القانونية من أجل حمايتها وتطويرها. منها: المادة (59) تغريم من يقطع نخلة واحدة بنصف «مَنٍّ» الفضة، والمادة (60) إذا أعطى شخص أرضه لآخر ليغرسها بستاناً فليس له الحق في العوض لأربع سنين، وفي السنة الخامسة يتقاضى نصف الناتج. وهو قرار يتماثل مع قرار المغارسة المعمول به الآن في العراق. والمادة (64/ 65) إذا عهد مالك إلى فلاح تلقيح نخيل بستانه والعناية بها، فعليه أن يسلم ثلثي الحاصل إلى صاحب البستان ويأخذ لنفسه الثلث. وإذا أهمل الفلاح تلقيح النخل وسبب نقصاً في الحاصل فعليه أن يؤدي إيجار البستان، أسوة بالبساتين المجاورة.
وهناك ألفاظ قديمة ما يزال استعمالها جارياً بين زارعي النخل، مثل لفظة [التالو] المستعملة محلياً لتعني [الفسيل]، ووجدتْ في المصادر المسمارية بلفظة «التالو» «التالا» بالآرامي. ولفظة التبلية، أي الوسيلة التي يصعد بها إلى أعالي النخل أصلها [توبالو] بالبابلية، وأما الاسم البابلي للنخل فهو [جشمارو] وهي مأخوذة من الكلمة السومرية [جشمار] والتمر في السومرية [زولوم ما] ومنه الكلمة البابلية [سولبو] والنخل الآرامية [دقلة] وفي العبرية [تامار] وفي الحبشية «تمرة» كان البابليون يستفيدون من التمر ونخله فوائد جمة.
في قصيدة بابلية تعداد لفوائد النخل أحصيت في 365 فائدة، ولعل ذلك مماثل للأغنية التدمرية القديمة التي تعدد فوائد النخل بـ «800» فائدة، ولقد ذكر «سترابو» أهمية النخل في العراق القديم بقوله [تجهزهم النخلة بجميع حاجاتهم عدا الحبوب] وتصف المصادر المسمارية أصنافاً كثيرة من التمر تتجاوز السبعين صنفاً. كما أنها تذكر أصنافاً بأسماء مواضعها مثل: تمر تلمون «البحرين» تمر مجان «عمان»، وتمر ملوخا.
وأدخل البابليون والآشوريون التمر في بعض الوصفات الطبية كاستعمال التمر في دلمون لمعالجة الدمامل والقروح. ووصف ماء التمر مع ماء الورد للمعدة، ولعسر الإدرار مع الحليب. ووصف مسحوق نوى التمر مع شحم الخنزير للرضوض والأورام، وكذلك مسحوق النوى وماء الورد لمداواة العيون. وذلك لأن النوى يحتوي على العديد من الحوامض العضوية النادرة. واستحضر البابليون شراباً من نسغ النخلة يسمى [شراب الحياة]. وتم العثور على وثيقة من العهد البابلي، تكشف لنا اهتمام البابليين بالنخلة وضرورة الاهتمام بحراثة الأرض المزروعة بالنخل ومراقبة الطلع وتلقيحه. ولقد كانوا يزاولون تسميد النخيل، وتنظيف قواعده من الفسيل.
وذكر هيرودوتس، الذي عاش في القرن الخامس ق. م، خشب النخل في بابل واستعمالاته العديدة. وأن معظم النخل ينتج تمراً جيداً. وعندما تقدم الجزريون على جنوب بابل وجدوا النخل هناك، وكانوا قد ألفوه في ديارهم. وهناك دلائل تشير إلى أن النخل انتشر من وادي الرافدين شمالاً حتى وصل فينيقيا وسورية. وكانت شجرة الحياة وسيلة مألوفة في التزيين.
وفي الشعر الأكدي يتابع نص منافع شجرة النخيل مقارنة مع منافع شجرة الطرفاء:
فتحت شجرة الطرفاء فمها [قائلة لشجرة النخيل]
جسدي مقارنة بجسدك [هو....]
وأغصاني النطاقية ـ التعريش جليلة الفائدة، وأنت [...]
أنت مثل أمةٍ تخون سيّدتها
بكبرياء، أجابت شجرة النخيل
«قرون بذورك المعلقة [...]
عندما نتوجّه نحو إله «فجسدك»
يصلح فقط ضد الدنس
والطرفاء تجهل ما هو الأفضل بين الـ «...»
أو الأفضل بين «.....»
كما سبق، تكلمت الطرفاء: أنا أفضل منك
أنا سيدة كل صنع يدوي. الفلاح
كل ما لديه الفلاح يقطعه من عقفات
أغصاني [...]
إنه يصنع [مقبض] مجرفته من جذعي، وبوساطة المجرفة المصنوعة بالاعتماد عليَّ يفتح قناة الريّ لكي يصل الماء إلى الحقل
أنا لديّ [...]
وبسبب رطوبة التربة، فإنَّ الحبّ [...]
أنا أدرس وأفصل الحب، وبالنسبة
لما يجعل الشعب ينمو، أنا أدرس
كما تقدم [أجابت شجرة النخيل]: أنا أفضل منك
أنا هي سيّدة كل صنع يدوي. الفلاح (...)
كل ما لديه (الفلاح): الأعنة والأسواط والحبل
من أجل القرن ومحراث ـ البذر
وتجهيزات الإسراج [...] الحبل من أجل [...]
والشكبة من أجل العربة (...)
(...) تجهيزات الفلاح، كلها منه
كما تقدّم، (تكلمت شجرة الطرفاء): فكري بالتجهيزات
المصنوعة بوساطتي في قصر الملك. ماذا (...)
(في) قصر الملك، يأكل الملك في صحن مصنوع منّي
(وتشرب الملكة) في كوب مصنوع منّي
وبملعقة مصنوعة منّي يأكل المحاربون، وبوعاء
مصنوع منّي (...) ويستخرج الخباز الطحين،
أنا عاملة النسيج
(ألتقط) الخيط (وهكذا)
أنا التي أكسو الناس (...)
الـ (...) العائد للإله، أنا معوذة رئيسة
وبالطقوس أجدد المعبد. (أنا)
حقاً شيء ذو قيمة.
ولا مثيل لي.
كما تقدم (شجرة النخيل قالت): في مكان التقدمة للإله
سين (...) سين الكريم
لا يستطيع الملك تقديم قربانه السائل، في أي
مكان إن لم أكن حاضرة، في [...]
تؤدى الطقوس بمرافقتي، وسعفي مكدسة
على الأرض
وكذلك فالنخيل هو أيضاً صانع جعة،
كما سبق (تكلمت شجرة الطرفاء): تعالي، ودعنا نذهب أنا وأنت إلى مدينة كيش
هناك دلائل عني حيث يعمل التلميذ
الـ [...] ليست مليئة [بـ...]
ليست مليئة بالبخور. فالقا ديشتو تنثر
الماء و [...]
وتأخذ [الـ ...] ويتعبدون ويقيمون احتفالاً
عند ذلك
إنه من أجل يد الجزار وتحركاته
كما تقدم (تكلمت) شجرة النخيل تعالي لنذهب
أنا وأنت إلى مدينة [...]
حيث توجد الخطايا، هناك عمل من أجلك
أيتها الطرفاء. (أما أنا) فالنجار بـ [...]
إنه يحترمني ويمتدحني يومياً
(تكلمت شجرة الطرفاء قائلة) «من [...] الذي أنا أحمل. (عندما) [يستعمل] الراعي
عصيّاً.