محمد جبير
شكّلت فاصلة 14 تموز 1958 منعطفًا تأريخيًا في السردية العراقية، تختلف اختلافًا كلّيًا عن السرديات البريطانية التي سادت في المرحلة الأولى (البدايات من 1921 - 1958)، ففي هذه المرحلة التي يمكن النظر إليها بوصفها مرحلة بناء دولة، وإعادة ترميم الإنسان العراقي الذي عاش مثلّث (الفقر والمرض والجهل) في المرحلة الأولى إلى التأكيد على الروح المتفائلة في الحياة، وبناء وطن صالح للعيش، لكن ما كان يحلم به المثقّف العراقي تعثر مع الأيام الأولى للتغيير التي شهدت صراعات دموية بين أقطاب السلطة والطامعين بها، وكذلك بين الأحزاب التي تطمح لأن تكون قريبة من سلطة القرار.
انهارت قيم، وتبدّلت قناعات، وصار التفاؤل عيبًا من عيوب السرد الواقعي، أو حتّى السرديات التجريبية على مستوى الشكل والمضمون، لاسيّما في المجاميع الأولى لعدد من الكُتّاب آنذاك، التي حظيت باهتمام إعلامي، وأُريد لها أن تكون فتحًا جديدًا في السردية العراقية المعاصرة، فقد كان تأثير الأفكار الوافدة واضحًا في المنتج الإبداعي، مقابل الخيبات الأيديولوجية للشخصيات القصصية والروائية، وهي في حدّ ذاتها انعكاس لخيبات القناعات الأيديولوجية لمنتجي هذه النصوص.
وشكلت هذه السمة مظهرًا من مظاهر التقاطع مع المنطلقات الفكرية لمنتجي السرديات في المرحلة الأولى، التي أكدت، في ما أكّدت عليه، على الظلم الطبقي الذي كان يعاني منه الفلّاح العراقي بسبب استبداد الإقطاع، حيث نلمس مظاهر البؤس والجوع والمرض والفقر والجهل الذي تعيشه فئات المجتمع المهمّشة في أعمال ( ذو النون أيوب، جعفر الخليلي، عبد المجيد لطفي، عبد الحقّ فاضل، أدمون صبري، وآخرين)، كما نلمس الفاصلة المدنية في الحياة العامّة بين الريف والمدينة، والتي ستظهر لها معالجات جديدة في السردية العراقية بعد مغامرة التجريب التمهيدية.
في بدايات هذه المرحلة، أو السنوات العشر الأولى، غاب عن المشهد السردي معظم كتاب التحديث في العشر الأخيرة من مرحلة السرديات البريطانية، ولهذا الانقطاع أو الغياب عن المشهد مسوّغاته الجمالية والفنية، التي سوف نعرج على ذكرها في موضع لاحق، وتركت الساحة الإبداعية لأسماء جديدة دخلت إلى المجتمع الثقافي بقوّة وإصرار على إثبات الوجود، فكانوا الرافد الحقيقي لرفد صحف ومجلّات آنذاك بالنتاج الإبداعي، ولم يرتضوا بالمحلّية إنجازًا، وإنّما ساروا على نهج الجيل الحداثي السابق في الانتشار على المستوى العربي.
برز في مرحلة التجريب التمهيدي البون الشاسع على المستوى الجمالي مع بدايات التحديث، فإذا كان الواقع هو المركز السردي في بدايات التحديث، صارت الذات الإنسانية المنكسرة والمهزومة هي المركز السردي في النصوص الممهدة للتجريب، وهذا ما يمكن أن نلمسه في تجارب الكُتّاب (عبد الرحمن مجيد الربيعي، موسى كريدي، غانم الدباغ، موفق خضر، غازي العبادي، عائد خصباك، خضير عبد الأمير، محمود جنداري، وآخرين).
فقد جسّدت أعمال الربيعي في المرحلة الأولى في مجاميعه (السيف والسفينة 1966، الظلّ في الرأس 1968، وجوه من رحلة التعب 1969) مجمل الصورة النمطية عن الخيبات السياسية والعاطفية للبطل المأزوم، والتي جاءت عبر استرجاعات في الزمن استذكارًا لتلك الخيبات أو اجترارًا لها من نصّ إلى آخر، "وقبلك أحببت يا يسرى، وهمت بعيون من أحببت، وقلت الشعر، وثملت، وقبلك يا يسرى عشت مع الساقطين والمشرّدين، وأفلست وجاهدت، لكن الغريب أنّ وجهي خالٍ لا يحمل شيئًا من هذا، ولو كان الماضي يترك حزوزا لكانت جبهتي تثير قرفك، ولم تحمل عينيك على الالتفات صوبها طويلًا". "ق/ ظلال اللحظات/ مج السيف والسفينة/ ص21"، وهذا المقطع بالذات يذكّرنا برواية أوسكار وايلد (صورة دوريان جراي).
لكن هل تشكّل هذه التجارب (الصوت العقيم) في السرد، التي يستهلها بالآتي "خيولنا متعبة، ونفوسنا أكثر تعبًا، ونحن محاصرون الآن، نحن محاطون بعدوّ يفوقنا بسلاحه وعزيمته، وفي صدره تعتلق نار الثأر التي انتصبت بالنصر طويلا.. وبعد قليل ستتوالى على جسدي الطعنات، وسأنتهي بين سيوفهم، فلا انتصاراتي الماضية تنتشلني، ولا رغائبي ولا انطلاقتي المشؤومة، سأموت بعد قليل وهنا الفجيعة الكبرى، لكنّ الذي يحزّ في نفسي أنّ كلماتي واقفة في العراء، ولن تجد الصدر الذي يضمّها بحنو". "م.ن / ق الصوت العقيم/ ص9".
هذا الإحساس بضياع الكلمات في العراء يترجمه القاص موسى كريدي إلى تجاوز للواقع في مجموعته الثانية "خطوات المسافر نحو الموت/1970" لا سيّما في نصّه الافتتاحي "طقوس العائلة" التي تكشف عن المسكوت عنه، وتتعرّض إلى الطقوس الدينية وما يؤطّرها من شوائب أثناء الممارسة، وهو بهذه المعالجة الجمالية الذكية لثنائية الدين/ الجنس يختلف اختلافًا كلّيًا عن المعالجات التي قدّمها غانم الدباغ في "الماء العذب/1969، وسوناتا في ضوء القمر/ 1970".
يذكر الشاعر عبد الرحمن طهمازي في مقدّمته لمجموعة "الموقّعة/ 1970" للقاصّ عائد خصباك الآتي: "في مرّة قرأت قصّة حدثها الرئيسي حقيقي، لكاتب شاب، تتحدّث عن أحد الرعاة سرق ابنة صاحب الغنم، وفي الطريق قتلها، لقد جرّد هذا الكاتب الحدث من كلّ أوصافه، وعامله كحدث غريب يستحقّ النقل بسهولة، وهذا هو التسيّب الأدبي الحقيقي، إنّ الراعي لا يمتلك شيئًا، بل الذي لا يفكّر بالملكية أمام السيد، ولننتبه، وليس أمام الإقطاعي، فوجئ تمامًا بفعلته، ومن الجهة الأخرى بملكيته المصادفة، فحاول التخلّص منها، إنّه لم يعاملها كملكية قانونية يمكنه أن يرجعها، قلنا إنّه لم يحتمل الامتلاك، ومرّة ثانية لم يقدر على الاحتفاظ بها، إذن أفناها، تركها بالتعبير الطبقي". "مقدمة مج الموقعة/ ص10".
ويضيف أيضًا "أنّ قصصنا تؤمن بالنموذج –جميع الشخصيات ملحقة بالبطل – " ويسترسل "إنّ النموذج يوضّح غيرة الكاتب من بطله هو، أي النموذج، يحمل ذاتين، ذاته هو وجزءًا من ذات الكاتب". "ن.م/ ص12".
هذه السمة، التشارك في البطولة بين الشخصية والكاتب، نجدها في معظم تلك النصوص التي جسّدت الخيبة والخذلان والانكسارات العاطفية، وهو الأمر الذي تكشفه اللغة المعبّرة عن الذاتين.
لكن كلّ تلك المحاولات التجريبية لم تذهب سدى، وإنّما درّبت وصقلت مواهب الكُتّاب، ووصلت بهم إلى ضفاف التجديد السردي بعد نضوج التجربة الإبداعية، إذ شكّلت التجارب التي ظهرت في مطلع السبعينيات لهؤلاء الكُتّاب مع مجاميع أخرى متميّزة لكُتّاب آخرين، أمثال "محمد خضير، فهد الأسدي، جمعة اللامي، ناجح المعموري، وآخرين"، فقد كانت هذه التجارب تحمل بين طيّاتها نضجها على المستوى الجمالي، وفتحت آفاقًا جديدة لجيل ما بعد الستينيات لكتابة سرديات حداثية متطوّرة، مستثمرة، في ذلك، التقنيات السردية الحديثة التي أنتجها العالم المتقدّم.