كاظم لفتة جبر
يعد الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو أبرز الفلاسفة الذين اهتموا بالجسد وعلاقته بالسلطة والجمال، وذلك نتيجة التغييرات الصناعية والاكتشافات العلمية، وظهور الانظمة السياسية التي غيرت ملامح أوروبا في القرون الأخيرة ما قبل القرن العشرين. ويؤكد فوكو بأن السلطة لا يمكن أن تختصر بكرسي الرئاسة ومجالس البرلمان، أو النظام السياسي للدولة، وليست أفقية كما كان يروج لها في العصور القديمة، بل أصبحت أخطبوطيَّة ممتدة عموديا في كل مكان. فالسلطة موجودة في البيت، والمؤسسات، والمدارس، والجامعات، والمستشفيات، والثكنات. إذ أصبحت السلطة فكرة ممتدة غير محددة بمكان معين.
وما يميز أسلوب فوكو هو التعقب التاريخي للمفاهيم ومحاولة استخلاص أوجه التطور المعرفي والتاريخي للمفهوم وإعادة هيكلته مع متطلبات العصر. لذلك يتعقب علاقة السلطة والمعرفة بالجسد، حيث يرى أن كل خطابات المعرفة وخطابات السلطة تتجه نحو الجسد لتشكيله وتصنيعه بالصورة التي تراها مثالية وخادمة لمصالحها.
لذلك يبحث فوكو في أرشيف الجسد من خلال تاريخ الحضارات، فوجد اتفاقا بين المجتمعات، والثقافات المختلفة على تحديد صورة ومعيار للجسد المثالي، فمن الناحية الجمالية يحث على جمالية الجسد ورشاقة الهيئة، إذا كانت تتصور جسدا خاليا من العيوب والشوائب، ويحتوي على جميع المحاسن، أما من الناحية الأخلاقية فكانت تتمنى جسدا قريبا من الصفات الإلهيّة طاهرا ونقيا وخاليا من الخطايا والآثام والذنوب، والتي هي من صفات الشياطين التي تدنس طهارته.
ويؤكد فوكو بأنَّ كلَّ الفنون التي عرضت الجسد المثالي من خلال التماثيل، أو الرسومات، أو المسرحيات، أو الروايات، أو الأساطير، ما هي الا رسالة مشفرة للسيطرة على الجسد وجعله طيعا.
أما من الناحية الاقتصادية فكان الهدف استثمار قوى الجسد وجعلها منتجة عاملة. وما يميز الجسد المثالي هو النشاط والعمل من دون تذمر ولا تعب. وهذا يفسر لنا أن هذه المبادئ المثالية للجمال ما وضعت الا لهدف التحكم بالجسد وهو في ذات الوقت منشأها. وهذا المفارقة بين الجسد في الواقع، والجسد المتخيل المثالي، تنشأ حالة من الصراع، ما هي إلا تعبير عن الصراع بين الجسد والسلطة، أو هو بالأحرى صراع بين الإنسان والمثالية التي يبحث عنها، أو بين سلطة الجمال والقبيح.
وهذا الصراع بين الجميل والقبيح من إقدام الصراعات التي دارت حول موضوع الجسد، وهو صراع راهن ولن ينتهي. فرفض وعدم قبول الصورة التي عليها جسدنا الحالي، نظرا لما نلاحظه من نقائص وعيوب فيه. فننزع إلى رفض هذا المكان البشع، لتخيل ورسم مختلف الصور والأعمال الفنية الفائقة الجمال، وحبك حكايات وأساطير عن أجساد خارقة وفائقة الجمال والروعة.
لذلك سعت الحضارات قديماً إلى جعل الجسد متشبهاً بالصفات الإلهيَّة، إذ تجد البابليين واليونانيين يؤكدون على الخلود والجسم الصلب والقوي الذي يرقى الى مجد الآلهة، وذلك عبر إنشاء الألعاب الأولمبية، والتماثيل ذات الاجسام المقسمة والقوية. أما الفراعنة المصريين فاهتموا بالجسد وخلوده من خلال التحنيط والحفاظ عليه من الفناء.
أما في العصر الحديث فقد انتهى عصر التشبه بالآلهة، وبقي البحث عن النمط المثالي الذي يجعل الانسان لا يشيب، أو الذي لا يشوه بالتجاعيد التي ترسمها عجلة السنوات التي تمر على الإنسان. فكان الصراع الحديث هو صراع مع عجلة الزمن، لتقليل أو محو اي تقدم في العمر.
وهذا الجسد الذي نسعى الى بلوغه غير موجود سوى في خيالنا، لذلك ركزت الحداثة على الجسد بوصفه مجالا خصبا للاستثمار. وذلك عن طريق تنمية معينة لرسم الصورة المثالية، يتميز بها الجسد الطيع، الذي لا يكل ولا يمل عن العمل والإنتاج. وبهذا لا زال الجسد يعايش الصراع مع الصورة المثالية من خلال رفضه لساعات العمل الطويلة، والأعمال الشاقة، واهدار الجهد.
وبالوقت نفسه تجده يستسلم ليوتوبيا الجمال التي تشهر لها الإعلانات، لكي يخفي علامات التعب والارهاق الذي تخلفه عجلة الزمن المتسرعة للربح. فيجد نفسه يكثر من التوجه لاقتناء مختلف مساحيق التجميل والمنتجات الجمالية. وأحيانا يستسلم لعمليات التجميل وصناعة القوام.
كما أنَّ هذه الرغبة ليست طبيعة في الإنسان، بل نوع جديد من تأثير الصورة الجمالية، فالفضائيات، والعوالم الافتراضية تتفن لتقدم لنا صوراً لأجساد فائقة الجمال، وأجساد أخرى غاية في البشاعة. وفق غاية موضوع الدعاية أو ضمن أهداف سياسية وايديولوجية معينة.
بل حتى سوق العمل أصبح خاضعاً لمعيار الجميل والقبيح، إذ أصبح يضع معايير وشروطا جمالية للتوظيف، منها حسن المظهر، والقامة، والأناقة، واللباس، وهذا أدى إلى الإقبال الكبير على طب التجميل، ويرجع كل ذلك إلى شغف الجسد لبلوغ الكمال، والسعي على القبول الاجتماعي.
فالجسد الإنساني مهما عانى من القبح والاضطهاد، يبقى المكان الثابت والمركز الذي تشع منه كل الأماكن الحقيقية، والأماكن الخيالية. فيسعى إلى تكوين صورة مثالية في الذهن فيكون الجسد في اللا مكان، كما يمكن للذاكرة أن تطير بالجسد إلى الأماكن الأخرى من خلال الأحداث الماضية والمحن التي يمر بها الإنسان فتبقى عالقة فيه، وما يميز هذا اللا مكان أنه يغير معادلة الحياة الواقعية ويؤثر فيها.
فهذا الصراع باقٍ ويتطور مع متغيرات سلطة كل عصر فبعد أن كانت الصورة المثالية غير المرتبطة بالجسد هي السلطة، أصبح الجسد اليوم هو السلطة الذي تخضع له كل المركزيات والسلطات، حيث سمحت له عمليات التجميل بامتلاك السلطة وإدارتها متى ما أراد ذلك. وان التقدم العلمي التكنولوجي والطبي اتاح له ذلك، فالعصر الحالي هو عصر الجسد.