باقر صاحب
إن الراصد الدقيق لما ينشر من كتب في مختلف الأجناس الإبداعيَّة العربيَّة، يكتشف ندرة أدب الخيال العلمي، محليَّاً وعربيَّاً، وبالتأكيد، لهذه الظاهرة أسبابها، نحاول هنا تقصّي جذورها. يعرّف المؤلفان مجدي وهبة وكامل المهندس أدب الخيال العلمي، في كتابهما المشترك "معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب" بأنه "ذلك الفرع من الأدب الروائي الذي يعالج بطريقةٍ خياليةٍ استجابة الإنسان لكل تقدم في العلوم والتكنولوجيا، ويُعتبر هذا النوع ضرباً من قصص المغامرات، إلا أن أحداثه تدور عادة في المستقبل البعيد أو على كواكب غير كوكب الأرض، وفيه تجسيد لتأملات الإنسان في احتمالات وجود حياة أخرى في الأجرام السماوية..
ولهذا النوع من الأدب القدرة على أن يكون قناعاً للهجاء السياسي من ناحية، وللتأمل في أسرار الحياة والإلهيات من ناحيةٍ أخرى".
الثورة الصناعيَّة وبداية التأسيس
إنطلاقاً من جوهر هذا التعريف نبيّن بأنّ كلَّ المنشورات التي تناولت أدب الخيال العلمي، تشير إلى أنّ هذا الأدب برز عالمياً، بعد تحقّق الثورة الصناعية في الغرب، في القرن التاسع عشر، وما رافقها من تقدّم علميٍّ وتقنيٍّ في قارة أوروبا، وفي أميركا، بل سبّبت الثورة الصناعية تغييراً جذرياً في المجالات كافة، وكما يذكر الكاتب السوري باسم سليمان في مقالةٍ له بهذا الشأن عنوانها "ماذا ينقص الخيال العلمي العربي ليصبح مرآة مستقبلية؟" منشورةٍ في موقع "ضفة ثالثة"، يذكر بأنه "رافق هذا التغيير ظهور أدبياتٍ تُعنى بهذا الواقع الجديد، وخاصةً بسبب تفاؤل البشرية بمستقبلٍ أفضل نتيجة التقدّم العلمي والتقني، لكن في الوقت نفسه ظهر التخوّف تدريجياً من منجزات العلم، وخاصةً في تطبيقاته العسكرية والسياسية والبيولوجية. هذه الأدبياتُ أطلقَ عليها تسمية: الخيال العلمي".
وهنا من المنطقي القول إن غرب القرن التاسع عشر ليس هو غرب القرن الحادي والعشرين، إن الغرب الآن، هو الغرب الآلي في كلِّ مجالات الحياة، غرب غزو الفضاء. كلُّ منجزٍ علميٍّ تقنيٍّ جديد، تكونُ ردود أفعالنا أزاءه؛ بأنه أشبهُ بالخيال. إذاً ارتباط العلم بالخيال وثيق، لأنّ كلّ مُنجزٍ علمي يُحسب لصالح الغرب غالباً، هو نتاج فكرةٍ خياليةٍ تتحقق على أرض الواقع، بعد جهدٍ كبيرٍ، من دراساتٍ وتصاميم واختبارات.
بين الخيال والعلم
كتّاب الغرب من أوائل من انتبهوا إلى الصلة الوثيقة بين الخيال والعلم، وهم يعيشون في حاضناتهم العلمية المتطورة باستمرار، ما يشكّل حافزاً عظيماً لهم، لكتابة سردياتٍ عن افكارٍ علميةٍ، سردياتهم تلك تحوّلت إلى أفلام خيالٍ علمي، نشاهدها وننبهر، مرددين أنّ الغربيين لولا تطورهم العلمي المتعاظم، لما استطاعوا أن ينفّذوا كلّ التقنيات السينمائية في أفلامهم. وقد يفطن إليها بعض علمائهم، فينجزونها حقيقةً على أرض الواقع. إذاً هناك الكلُّ يعملون كنخبٍ أدبيةٍ وفنيّةٍ وعلميةٍ منتجة، ومن ذلك أنّ العقل المادي الغربي تسلّل إلى كتب الخيال العلمي. مثالٌ على ذلك فيلم "آلة الزمن"، وهو فيلم أميركي أخرجه سيمون ويلز عام 2002، وهو مأخوذٌ عن رواية بالاسم نفسه للكاتب الإنجليزي هربرت جورج ويلز.
وملخّصهُ أنَّ بطل الفيلم العالم والمخترع أليكساندر هارتجين يريد "أن يثبت إمكانية السفر عبر الزمن. ثم يتحوّل تصميمه إلى اندفاعٍ يائسٍ حين تقع له مأساةٌ شخصيةٌ تدفعه لمحاولة تغيير الماضي".
{وبضدّها تتبيّن الأشياء}
باستشهادنا بقول الشاعر دوقلة المنبجي صاحب القصيدة الدعدية "ضدّانِ لِما اسْتُجْمِعا حَسُنا/ وَالضِدُّ يُظهِرُ حُسنَهُ الضِدُّ" او بقول المتنبي "وبضدِّها تتبيّنُ الأشياء"، نريد تبيينَ أنّ أحوال العرب هي بالضدِّ من الغرب، فلم يمتلكوا بعد نواصي التطور العلمي التقني الغربي، حسبهم أنّ غالبيتهم مازالوا مستوردين ومستهلكين دائمين لمخرجات العقل العلمي التقني الغربي، وبغض النظر عن الأدب العربي الروحاني والوجداني، وذلك لا يُعدُّ مثلبةً، بل ميزةٌ قد يفتقدها الأدب الغربي. مازال النخبة من العرب من إعلاميين وكتاباً وأكاديميين ومبدعين عالقين في تناول مشكلاتٍ سياسيةٍ واجتماعيةٍ واقتصاديةٍ مزمنة، مشكلاتٍ مثل الفقر والحرمان والجهل وانعدام العدالة الاجتماعية، من دون حلولٍ جذرية، بالله، كيف ينتج واقع الجهل أدب خيالٍ علمي؟. بالرغم من أنّ هناك في التراث العربي القديم كتباً تُعدّ من أدب الخيال العلمي،
مثلاً "ألف ليلة وليلة، وحي بن
يقظان لابن طفيل ورسالة الغفران للمعري".
وإذا كنّا على يقينٍ بأنَّ أدباءنا المعاصرين المجيدين لمختلف الأجناس الإبداعية، لهم القدرة بالخوض في مجال الخيال العلمي، فكيف لهم أن يناقضوا ذواتهم، بالكتابة فيه من دون دعائم معرفيةٍ وعلميةٍ وتقنية، تكون وحيَ انطلاقٍ وتحليقٍ في كتابة الخيال العلمي. كما أنّ هناك اجتهاداً آخر، يناقض اشتراط التقدم العلمي المضطرد مع ازدهار هذا النوع من الأدب، هذا الاجتهاد يرى أنّ تخلّف الإنتاج التقني، قد يحفّز الكتّاب المنتبهين إلى هذا الأمر، في استثمار مخيّلتهم الأدبية بالتحليق في فضاء أدب الخيال العلمي، يُضاف إلى ذلك أنّ هناك خلفياتٍ سياسيةً وإعلاميةَ لبعض الأنظمة العربية في تشجيع الكتابة في هذا المجال "لتصدير نفسها على أنها راعيةٌ للعلوم".
هذا لا يعني أنَّ ما سنذكره من بعض الإصدارات العربية في مجال الخيال العلمي، تنصبُّ في حقل الترويج الإعلامي لهذا النظام أو ذاك، بل هي مساعٍ حميدةٌ لبعض الكتّاب العرب في التأسيس لأدب خيالٍ علميٍّ عربي، من بينهم الكاتب المصري يوسف عز الدين عيسى في أربعينيات القرن الماضي، وهو" أول من أذاع القصص في الخيال العلمي في الراديو، ونشر مقالاته العلمية في جريدة الأهرام تحت عنوان "مع الفكر والخيال". وهناك الكاتبان المصري نهاد شريف والسوري طالب عمران، اللذان كرّسا جُلَّ مؤلفاتهما بالكتابة في هذا المجال، فضلاً عن كتّاب آخرين، كتبوا في أغراضٍ أدبيةٍ مختلفة، أضافوا إليها الكتابة في أدب الخيال العلمي، مثلاً توفيق الحكيم في كتابيه: "في سنة مليون" صدر في عام 1953 ، و"رحلة إلى الغد" عام 1958، فضلاً عن الكاتب يوسف السباعي في رواية "لست وحدك" عام 1970، والكاتب فتحي غانم في روايته "من أين؟" عام 1959. كلُّ تلك الأسماء وكتاباتهم بقيت جهوداً متفرقة، تمنحنا انطباعاً واقعياً بندرة أدب الخيال العلمي عربياً، تدفّق قليلاً في زمن مضى، وشحَّ كثيراً في الوقت الراهن.