د. علاء كريم
يرتبط الشكل بالمضمون، ويكون ملاصقا له، لما يحمله من صور ومعانٍ تعتمد المفاهيم التي لها طاقة تشتغل على اللغة والرموز اللفظيَّة وأيضاً الصوريَّة، ومن ثم تعد صياغة فنية مغايرة لما يمتلكه الفنان المسرحي من خبرة وتجارب تساعده على تشكيل الحياة، لذلك من المستحيل تحقيق هذه المهمة عن طريق الفكر اللغوي، أو عبر الدلالات اللفظية فقط، بل إن الشكل في العرض المسرحي المعاصر له الأولوية في التصدر الجمالي والفكري، ومن ثم بوساطته يمكن تحقيق منجز رفيع.
الشكل بطابعه المميز يمكن له أن يواجه المتلقي ويستفزه ويستنفر ذائقته الجمالية، فهو لن يكون طارئاً داخل فضاء المسرح، ولا افتراضياً، بل هو متجذر واضح وغني بمعناه التكويني والذي يتشكل عبر الصور المألوفة، أو التي تستدعي الأفعال الغرائبيَّة والعجائبيَّة، لأجل فتح آفاق أوسع وتخيلات تصل إلى لحظة فجائيَّة حدسيَّة تكشف ما كان مستتراً داخل مساحة الفضاء المسرحي، الذي يعتمد مبدأ الحركة والتوظيف القصدي والمحمل بالدلالات الدقيقة، لمعلومات وأفكار وعواطف وأحاسيس، تجعل من حركة الكتل نقطة مركزيَّة في التعبير الجمالي المسرحي، ويؤكد ذلك "الكسندر دين" بقوله: تشمل صورة المسرح في حالة الفعل، لحظات من التصور في مظاهرها دائمة التغيير، رغم أنَّ الحركة توجد من صورة لصورة، فقد تكون بنية الفعل حركيَّة مثلما تكون بصريَّة أو سمعيَّة.
ايضاً تسهم السينوغرافيا بتشكيل الشكل الفني للعرض المسرحي، إذ تجسد السينوغرافيا مجموعة من التصورات التي يمكن لها أن تتشكل بأبعاد فكريّة وفنيّة وأيضاً معرفيّة، ترتبط مع بعضها البعض لتنتج بنية ذات نسق ثقافي منظم، تحمل خطاب العرض الثري بالاشتباكات التأويلية الداخلة في منظومة الشكل ونظامه، وهذا قد يستدعي الفهم وما يتطلبه من قراءات تعمل على تفكيك الشفرات وحركة الدوال. رغم أن هناك العديد من العروض المسرحية التي شوهدت عبر عقود، سواء أكانت عروضاً أجنبية أم محلية، بقي فيها الشكل الفني يخضع للتأويل، أي بمعنى آخر غامضاً. لذا يجب معرفة كل الصياغات المنهجية والعلمية التي تعنى بتحولات الشكل في العرض المسرحي المعاصر، واستخلاص النتائج التي من خلالها يمكن الوقوف على الدلالات القصدية وحتى الافتراضية وتأثيرها على بنية الشكل الفني، ومستوى الوعي الذي من خلاله يرتقي العرض المسرحي بالذائقة الجمالية، وبمفهوم التحولات المغايرة للشكل الفني وقراءاته المختلفة.
هناك تشابه واختلاف في وجهات النظر، وفي أزمنة متعددة بمفهوم الشكل عند الفلاسفة، ومنهم: "أفلاطون" الذي أكد أن الشكل، وليس المضمون، هو ما يجعل العمل الفني جميلاً، وايضاً أكد أن الجمال مستقل عن الحقيقة والنفع. أما "إيمانويل كانط" الذي جاء اهتمامه بالشكل نتيجة إخفاق المذهب التجريبي في تقديم تفسير كافٍ ومقنع لليقين الذاتي لأحكام الذوق، وإثبات الحكم الجميل بأنّه واحد عند الجميع، فإدراك "كانط" لهذا الإخفاق جعله يسارع إلى وضع معيار واحد للجميع، بمعنى مشاركة الجميع في الحكم الجمالي، وهذا لن يتحقق إلا بربط هذا الحكم بالصورة، وبهذا النحو يتضح مدى اهتمام "كانط" بالصورة من دون المضمون. أما "هربرت ريد" فيرى أن الفن هو تطور لعلاقات شكليَّة، غالباً ما تتكون نتيجة اتحاد مجموعة عناصر، تؤدي إلى انبثاق الأشكال الفنيَّة التي بإمكانها أن تخاطب المتلقي، وهذا ما يتميز به المسرحيون عند خلق أشكال جديدة ينظمها الفنان، توالت لتكون مغايرة ومختلفة عما موجود في التصورات والأفكار الملامسة للحياة اليومية، ولا كما موجود في الطبيعة، بل تكون وفق رؤى جديدة رسمت برؤية إبداعية مختلفة.
على ضوء ما سبق ذكره، يتضح لنا أن بناء الشكل يخضع إلى مجموعة قيم جمالية ومعرفية، تحفز الانفعالات الملامسة لصور الذاكرة لدى المتلقي، فضلاً عن بعض العناصر المؤثرة في هذا الجانب، ومنها: الممثل الذي يظهر أكثر حيوية، بمساعدة عناصر العرض الأخرى، فالممثل يسهم بإضافة الصور وتعزيزها عبر أدائه، وما يمتلكه ايضاً من طاقة أدائية تتقارب مع المفاهيم الفلسفية للصورة التي تشكل المعنى الحركي والتقني المعني في الشكل الفني، ومن ثم يصبح الممثل داخل الشكل سارداً للصور المعززة بشفرات الجسد، أو التي تمتلك حيوية فعالة في إعادة إنتاج الحياة بصيغ جديدة مختلفة. استنتج من ذلك، بأن الشكل يخضع إلى مستويات فنية متعددة، منها: ما هو سمعي وبصري وحركي وذلك عبر عمليات المونتاج التي تؤثر في مستويات الشكل الفني، والتي تربط بها الشخصيات والحالات التقنية المختلفة، والمشاهد المتنوعة المرتبطة بالانتقالات السريعة المتداخلة والمتزامنة.