د. عبدالله حميد العتابي
يمتاز العراق بكونه بلداً عشائرياً بامتياز، تتعدد طوائفه واثنياته، وتتباين تلك الجماعات في خلفياتها الايديولوجية وأصولها التاريخية، وكل واحدة منها لها ذاكرة جمعية مختلفة عن الاخرى -وليس مستبعدا ان تكون لها نظرة مستقبلية خاصة بها-.
هكذا عانت هوية المواطنة في العراق المعاصر، ولم تحصل على دعم شعبي فعال يمكنها من التأثير وتجاوز تلك الهويات التقليدية، فتوزع العراق ومواطنوه على قوى متنوعة تتحزب كل واحدة منها برباط عشيرتها السياسية.
وهذا الترابط بين الجماعات التي كانت نتيجة لتركيبتها الثقافية ولد ممانعة الجماعات التقليدية لمفهوم المواطنة، فمفهوم المواطنة كان غير مألوف لديهم فضلا عن شكوك تلك الجماعات وعدم اطمئنانها لسلوك القيادة السياسية.
ان تنظيم العشيرة يقوم في الاساس على العلاقات القرابية ذوات النمط الابوي، اذ يقوم النسب على تتبع الافراد لنسبهم من طريق الذكور لعدد كبير من الاجيال وتنظيم حياة العشيرة من حيث البناء الاجتماعي وكذلك على انقسامها على عدد من الافخاذ، وكل فخذ يتبع نسبه أبويَّاً، ومن ناحية اخرى فانه يتبع نسبه وارتباطه بالعشيرة وتسلسله منها على اساس ارتباط قرابي، ونلاحظ ان كل عشيرة يرأسها شيخ يأتي على اساس الوراثة.
وهوية العشيرة هي الحاضنة الاجتماعية الاهم تتبارى في اهميتها مع كل الهويات الاخرى بما في ذلك الهوية الشخصية للفرد.
ولعل ذلك يظهر جليا في قول دريد بن الصمة “وهل أنا إلّا من غُزيَّة إن غوتْ ....غويتُ وإن ترشُد غُزيَّة أرشدِ”.
يبنى الفرد في النظام العشائري على العشيرة نفسها من طريق خلق ذاكرة جمعية وحرية جمعية لا فردية، إذ ان الفرد في العشيرة ليس حرَّ نفسه بل ملك العشيرة.
والحق فقد اهتم العرب في المجتمع العشائري كثيرا بقضية النسب الى حد انهم اخترعوا لتلك الغاية علما خاصا بهم هو “علم الأنساب”.
وفي الطور المكي للدعوة الاسلامية كانت العشيرة المجال الحيوي الاول في اطار الكسب الاسلامي، والاية القرآنية ترشد الرسول الى ذلك (وانذر عشيرتك الأقربين)، وفي الوقت الذي جاء فيه التنظير الاسلامي تفكيكا للعشيرة وداعيا الى إلغاء المفاخرات والعصبيات القبلية من منطلق الانسانية (كلكم لآدم وآدم من تراب) و(لا فضل لعربيٍّ على أعجميٍّ إلّا بالتقوى)، فقد بقيت المؤثرات العشائرية فاعلة حتى في أحرج اللحظات التاريخيّة، كما في مسألة استخلاف الرسول (صلى الله عليه وعلى آله وسلم) بعد وفاته، بحيث كان المنطق السائد في مؤتمر السقيفة والسجالات التي دارت بين المهاجرين والانصار هما منطق العشيرة.
ولأن تاريخ العراق لم يكن إلا تاريخا للعشائر ومشايخها فإن العرف العشائري أقوى سلطانا في توجيه المسؤولية لدى العشائر العراقية، ومن ثم الجزاء في العشيرة العراقية من كل قاعدة دينيَّة وتحجب القاعدة العرفيَّة القاعدة الشرعيَّة بما تخالفها.
وأن سنن العشائر (السواني) تحقق حاجات العشيرة الاساسية، فحماية العرض والعصبية تشبع حاجة حيوية اجتماعية في نقاء دم الجماعة والحفاظ على كيانها، وحق الضيافة والالتجاء والوجه تتجه كلها الى تأكيد تأمين اقتصادي لكل من تعوزه الحاجة الى معونة تفرضها الجماعة على نفسها.
أسوق هذا المقال وكلنا نشاهد المعارك الطاحنة بين العشائر في العراق، لا سيما في الجنوب لأسباب يمكن حلها وتجاوزها بسهولة إلا أن الروح العشائرية قد طغت على قيم المواطنة، ولعل تغوّل قوى اللا دولة كانت سببا مباشرا في الاقتتال العشائري، ان ترسيخ قيم المواطنة هو الحل الامثل لبناء عراق جديد، وكلنا نتذكر قرارات الزعيم الراحل عبدالكريم قاسم التي حدت من العشائرية، وجعلت الهوية العراقية هي الأساس.