فقهُ القراءة وفلسفة القارئ

ثقافة 2023/07/04
...

 محمد صابر عبيد


القراءة قراءات، لا يمكن وضع عدد محدد لها لأن كل نصٍّ يحتاج إلى عدد معين خاصٍّ به من القراءات، وكل قارئ يمتلك طاقة خاصة تحدد حاجته لعدد معين من القراءات، ابتداء من القراءة الأولى البسيطة الاكتشافيّة إلى القراءة الثانية الاستطلاعيّة إلى سلسلة قراءات أخرى تقوم على الرصد والكشف والاكتشاف، ووضع خارطة تتوضح جليّة بعد كل قراءة جديدة، وعلى الرغم من أن القراءة الأولى هي قراءة اكتشافيّة بسيطة في نموذجها القرائيّ، إلا أنها أهم قراءة لأنها تتوفر على المتعة الصرف.
المتعة أداة ضروريّة وفعّالة ومركزيّة في السلوك القرائيّ لا يمكن استبعادها مطلقاً من كلّ أنواع القراءة، لأنّها تستخدم مجسّات الذائقة المدرّبة لاختيار النصّ الثريّ والخصب والمنطوي على إمكانات جماليّة وفنيّة عالية، وهو يقدّم نفسه للذائقة على نحو إِلماحيّ في سياق مجموعة من الحسّاسيّات التي تحيل على خصبه وثرائه، إذ يبقى أثرها حاضراً وماضياً ومؤثراً على نطاق واسع، لا يغيب مطلقاً حتى النهاية.
القراءة الثانية هي قراءة فاحصة تسعى إلى الإحاطة بالهيكليّة العامة للنصّ، من طبيعة الشكل العامّ، وطبيعة الموضوع، والرؤية، والمناخ، وكلّ ما من شأنه التعريف بموجّهاته وأعرافه وتقاليده وحدود عمله وسياقاته، ولا تقلّ القراءة الثانية أهميّة عن القراءة الأول على الرغم من أنّها تتحوّل من قراءة استمتاع مطلقة إلى قراءة متعةٍ وبحثٍ وتقصٍّ وكشفٍ ومعرفةٍ أولى، ومن القراءة الثانية يبدأ القارئ بتكوين حقل الملاحظات الذي يسجّل فيه أيّة ملاحظة تردُ إلى خاطره القرائيّ، من دون أن يستثنيَ شيئاً مهما اعتقدَ أنّه صغير وبسيط وطارئ، لأنّها ستكون مُهمةً وستخضع للتوسّع والإضافة والتعزيز والتحليل والتأويل في القراءات اللاحقة.
 بمعنى أنّ حقل الملاحظات هو حقل إجرائيّ استنتاجيّ على غاية من الأهميّة والخطورة في مسار الإمساك بمكامن النصّ والتقاط جواهره، ومن ثمّ العبور بطمأنينة واضحة إلى قراءات أخرى تتبع القراءة الثانية، ومثلما كانت القراءة الأولى مصيريّة على نحو ما ذكرنا فإنّ القراءة الثانية مصيريّة بالمستوى النقديّ نفسه.
القراءة الثالثة والرابعة والخامسة أو أكثر يجب أن تحظى بالأهميّة نفسها، حيث يتوقّف عددُ القراءات من أجل الوصول إلى قراءة أخيرة على النصّ من جهة والقارئ من جهة أخرى، فقد تنتهي القراءة عند القراءة الثالثة، وتتوقّف أخرى عند الرابعة، في حين تحتاج قراءة أخرى إلى قراءة خامسة أو أكثر، ولا بدَّ أن يعيَ القارئ الصورة المثلى لقراءته حين يبلغ قراءة ما يتيقّنُ أنّها القراءة الأخيرة.
يندرج مصطلح القارئ في سياق فعاليّة المناهج النقديّة الحديثة التي وجدت أنّ القراءة على يد القارئ النوعي «السوبر» هي الإجراء الأصلح مفهومياً مع طلائع المناهج النقديّة الحديثة، وهو يعني فيما يعنيه القارئ الاستثنائيّ الذي يساوي في أحيانٍ كثيرةٍ (الناقد)، ولا يبتعد كثيراً عن القارئ المهتمّ غير الناقد أيضاً، فهو مصطلح مفتوح على أكثر من مستوى، لكنّه يحيل دائماً على نوع من القارئ المتخصّص الذي يعالج المقروء معالجةً كتابيّةً ناضجةً ومُميّزةً، وبوسعنا أن نصطلح على القارئ الآخر المكتفي بالاستمتاع والفائدة بـ (المتلقّي)، لأنّ مصطلح (القارئ) توغّل كثيراً في حقل الدراسات النقديّة النظريّة كي يتنكّب دور الناقد، وبهذا انفصل تماماً عن دلالته التقليديّة في الاكتفاء بعملية القراءة الطبيعيّة استمتاعاً وفائدة، على النحو الذي يدفعنا إلى استثمار مصطلح (المتلقّي) للدلالة على القارئ في صفته القديمة المعروفة التي تكتفي بالتلقّي والفائدة والمتعة.
 وربّما يكون مصطلح (القارئ) أوسع وأعمق من مصطلح (الناقد) في هذا السياق، حين يتمّ النظر إليه بوصفه يؤدّي عملاً حاوياً للمقروء وليس ناقداً له فحسب، فالمحتوى المفهوميّ للناقد مشحون بطاقة مقصديّة ذات طابع ليس إيجابياً في المطلق، في حين يبدو مصطلح القارئ في هذا السياق أكثر ملاءمةً من منظور الطابع الإيجابيّ للدلالة، ولذا بوسعنا الاتفاق على أنْ نصطلح على الناقد في حُلّته الحديثة مصطلح (القارئ) وهو يضمّ معنى القراءة المفتوح ومعنى النقد المخصوص، فنُخرجُ المفهومَ من دلالته البسيطة التقليديّة التي تدلّ على كلّ من يمارس فعل القراءة بآليّاته السياقيّة المعروفة، ونصطلح على هذا النوع من القراءة العامّة بـ (التلقّي) بوصفه قراءة لا تتعدّى درجتها نحو الكتابة النقديّة التي أصبحت (قراءة).
إذن مصطلح (القراءة) هنا يعني (التلقّي + النقد)، وحين يكتفي القارئ بالقراءة فلا تندرج ممارسته هذه في سياق العمل النقديّ ذي الصفة الكتابيّة الإجرائيّة، على النحو الذي يمكن أن نصفه هنا بـ (المتلقّي) استناداً إلى طبيعة الممارسة القرائيّة المجرّدة الخالية من فعل الكتابة النقديّة، والمكتفية بمتعة القراءة والإضافة الفكريّة والذهنيّة.
القارئ يكون على أنواع أيضاً، يبدأ من القارئ البسيط الذي يكتب ملاحظات انطباعيّة عابرة على النصّ، أو القارئ السياحيّ الذي لا يهمّهُ سوى التفاعل مع المقروء آنيَّاً من أجل تزجية الوقت، وينتهي بالقارئ السوبر (الناقد) وهو يحقّق قراءة نموذجيّة شاملة يُنتجها في سياق تعبيريّ نصيّ يضاهي النصّ المنقود ويضارعه، لذا فإنّ المتلقّي أيضاً يمكن أن يكون على أنواع بحسب قدرة القارئ على استيعاب الرؤية الكتابيّة في النصّ، وقدرة النصّ على إبهار القارئ وجعله يتفاعل معه إلى أعلى درجات التفاعل والمتعة والفائدة.