المناصات التنبيهيَّة في الرواية المعاصرة
عبد علي حسن
* اهتمت الدراسات والأبحاث السردية المعاصرة منذ ستينيات القرن الماضي بما يحف ويحيط بالمتن الروائي من نصوص، ولعل من أوائل من اهتموا بالبحث والاكتشاف لهذه النصوص هو الناقد الفرنسي جيرار جينيت عبر كتابيه المهمين (الأطراس) و (عتبات)، فهي العتبات عند جينيت و(هوامش النص) عند هنري متران و(العنوان) عند شارل كريفل، وكل هذه التوصيفات تتجمع عند مصطلح واحد حصل على المواضعة وهو (النص الموازي) Le Paratexte الذي ترجمه الناقد المغربي سعيد يقطين بـ (المناصات) وهي من النصوص المتعالية الفوقيَّة من خارج نص الأصل.
فضلا عن التناصات والميتانص، وقد عرّفها في كتابه (القراءة والتجربة) ص208 وهي (تلك التي تأتي على شكل هوامش نصيّة النص الأصل بهدف التوضيح أو التعليق أو إثارة الالتباس الوارد، وتبدو لنا هذه المناصات خارجية ويمكن أن تكون داخلية غالباً)؛ لذا فالنص الموازي حسب الدكتور محمد الهادي المطوي بأنماطه المتعددة ووظائفه المختلفة (هو كل نصيّة شعريّة أو نثريّة تكون فيها العلاقة مهما كانت خفية أو ظاهرة بعيدة أو قريبة بين نص أصلي هو المتن ونص آخر يقدّم له أو يتخلّله مثل العنوان والمقدمة والإهداء والتنبيهات والملاحق والذيول والخلاصة والهوامش والصور والنقوش وغيرها) في التعالي النصي ص195، ومن هذه النصوص الموازية هي المناصات التنبيهيَّة إذ يلجأ العديد من الروائيين على اختلاف جنسياتهم الى وضع تنبيه يحتلُّ الصفحة الأولى من الرواية قبل العنوان الداخلي والإهداء والمقدمات كاستعارة مقولات من خارج الرواية، وتشكّلُ جميع هذه الفعاليات الكتابيَّة المناصات الخارجية التي يراد منها تهيئة المتلقي الى قطع صلته بالمحيط عند البدء بعملية التلقي، والمناص التنبيهي الذي أشرت الى موقعه في الرواية حاز على مواضعة واتفاق من قبل الروائيين من دون نقص وإضافة، وهو كما يلي (الرواية بأحداثها وشخصياتها وتفاصيلها من صنع الخيال، وليست لها علاقة بالحقيقة والواقع، وأي تشابه في الأسماء أو الأحداث او تعارض مع فكرة ما فهما من باب الصدفة المحضة) مثلاً مناص رواية (ارابخا) للروائي العراقي سعد السمرمد، كما أنّ هناك نفراً من الروائيين من يضع مناصّاً تنبيهيَّاً مضاداً للمناص الأول ومتناقضاً معه في الإشارة والتنبيه كما في المناص التالي (هذه الرواية.. هي مزيج مقصود من الخيال والواقع، وإذا وجد أي شبه بين شخصياتها أو أسمائهم، وبين أناس حقيقيين أو أسمائهم، فلن يكون ذلك محض صدفة)، مثلاً مناص رواية (ريم والآخرون) للروائي عباس الحداد، فما المراد من هذه ومن تلك؟، وما هي المساحة التأويليَّة التي تتحرك فيها قراءة هذين التنبيهين؟، ولغرض متابعة القراءة فسأرمز للمناص الاول بالحرف (ا) والمناص الثاني بالحرف (ب).
لا شك بأن الهدف القريب من وضع هذين التنبيهين هو ترسيم علاقة اولية بين القارئ والنص الروائي، وبمعنى آخر نصب فخّ للقارئ لتهيئته للدخول الى متن النص، وهنا يعدّ هذا التنبيه من العتبات الاولية اضافة للعنوان والغلاف بعده علامة بصريَّة تخضع لتأويل القارئ لتشكّل هذه العتبات مناصات خارجية تقيم علاقة مع القارئ لإغوائه في متابعة قراءة النص اقتراناً بما استطاع وتمكن من الوصول الى مغزى هذه المناصات عبر فعالية التأويل .
لا شكَّ بأنَّ هناك علاقة ما بين النص الروائي والواقع، وتتخذ هذه العلاقة أشكالاً متعددة، فالرواية الواقعية تتمثل الواقع وتخلق الأحداث والشخصيات التي من الممكن حصولها ووجودها في الواقع إلّا أنّها ليست موجودة في حركية الواقع، فهو -الواقع الروائي- واقع ورقي يستمد هيئته السردية من تفاصيل الواقع، ومستقل عنه في ذات الوقت، وبهذا المعنى فهو واقع متخيل لا وجود له في أرض الواقع ولكن من الممكن حصوله، وتجنح روايات أخرى إلى إعادة إنتاج الواقع المعاش ولكن بشكل غرائبي وعجائبي سحري، اي إنتاج نص متخيل لا يمكن حصوله في أرض الواقع إلّا أنه يشكّل واقعاً موازياً يضع القارئ في منطقة التردد والحيرة على حد قول تودوروف ويحثه على البحث عن القرائن المرتبطة بالواقع والتي يتمثلها أو يرمز إليها النص.
وبالرغم من التناقض الظاهر بين المناصين المذكورين أعلاه فإنهما يشتركان في وجوب تحقيق الهدف القريب لكليهما، وهو تنبيه القارئ لتوجيه قراءته والكشف عن علاقة النص الأصل/ المتن الروائي بالواقع والتخييل، أما الهدف البعيد فإنه يتبدى في وضع القارئ في منطقة المقارنة الدائمة بين ما صرَّح به المناص وبين مجريات تعالق المتن الروائي بالواقع والخيال، اذاً فنحن أزاء مناص امتلك توصيف التنبيه، الأمر الذي من الممكن جعله واحدا من العتبات الخارجية المهمة التي تحيط بالنص الروائي، وبمعنى آخر فهو - المناص - يعدُّ نصاً موازياً متحركاً أو متغيراً بالإمكان رفعه من دون أن يؤثر في مجريات النص الروائي .
ففي المناص (أ) إشارة الى لا حقيقيّة الأحداث والشخصيات، وبما أنها كذلك فهي متخيلة سواء كانت تتمثل الواقع، اي تبني حكاية غير موجودة في الواقع إلّا أنّها ممكنة الحصول والحدوث وكذلك الشخصيات فهي لا تتماثل مع أي شخصية تعيش الواقع الفعلي في الزمن الروائي إلّا أنها يمكن أن توجد في زمن لاحق، ويمكن أن لا توجد إلّا أنها وبفعل تمثّلها للواقع ومكوناته فهي محتملة الوجود، أما إذا كان السرد يتجه صوب العجائبية أو الغرائبية أو الخرافية في بناء حكاية موازية للواقع، فإن الأحداث والشخصيات لا يمكن أن تتماثل مع أي من تفاصيل الواقع فهي مستحيلة الحدوث وتخلق التردد والحيرة عند المتلقي لتصديقها حسب تودوروف، وفي الحالتين فإن الحكاية هي حكاية متخيلة ملفّقة يراد منها أن تؤكد رؤية فكرية وضعها المؤلف عند البدء في كتابة متنه الروائي، أما الإشارة إلى أنه لو حصل (اي تشابه في الأسماء أو الأحداث أو تعارض مع فكرة ما فهما من باب الصدفة المحضة) فإن المناص يضع احتمال ظهور مطابقة أو تشابه بين ما يرد في النص الروائي من اسماء أو احداث وبين ما يختزنه المتلقي في ذاكرته من أسماء وأحداث وقعت فعلاً في زمن يسبق الزمن الروائي، إلّا أن هذا التنبيه يذهب إلى أن المطابقة أو التشابه ليس مقصودا ومخططا له من قبل الكاتب وانما هو محض صدفة، وهنا يثير هذا النص الى إمكانية إغواء القارئ وخلق تصور بوجود التطابق والتشابه يضع القارئ في منطقة المقارنة بين ما يرد في النص وبين تجاربه الحياتية الواقعية التي اختزنتها الذاكرة البعيدة الأمد أو القريبة الأمد ليتأكد من وجود أسماء شبيهة أو أحداث مماثلة لما تضمنه النص الروائي، وبما أن النصوص الروائية الواقعية تتمثل الواقع المعيش الذي يدركه القارئ ويعيشه فإنَّ احتمال المطابقة أو المشابهة أمر وارد، عندئذٍ ينسجم القارئ مع حيثيات وموجهات النص الروائي ويمتثل للرؤية الجمالية والفكرية التي سعى النص الى تأكيدها والوصول إلى مغزى فكرة وثيمة الرواية، أما النص الروائي العجائبي أو الغرائبي الذي اتجه صوب التخييل الذي يقطع الطريق أمام القارئ لتصديقه فإنَّ فعالية التأويل كفيلة بإعادة ما يرد من شخصيات ووقائع مستحيلة الحدوث في أرض الواقع الى ما يماثلها أو يرمز إليها عبر إعادة إنتاجها من قبل المتلقي، ولا نحسب أن هنالك مصادفة في تخليق أحداث وشخصيات لها عائديَّة أو انتماء إلى الواقع سواء بشكل واقعي أو عجائبي أو غرائبي، ففي جميع هذه الأشكال نلحظ أن عملية التخييل أمرٌ بديهي، وذلك لطبيعة الفن الروائي الفنيَّة .
أما في المناص (ب) فإنَّ الكاتب لا يفترض قطع صلة احداث وشخصيات روايته بالواقع بل يؤكد وجود القصديَّة في اختيار وقائع وأحداث وشخصيات قريبة من الذاكرة الجمعية وان امتزج فيها الواقع والخيال لتخليقها، وفي هذا الصدد أشير إلى أطروحتي حول الرواية الإفصاحيَّة التي ظهرت بعد التحول في البنية الاجتماسياسية العراقية، إذ تتهيكل هذه الرواية على أحداث ووقائع وشخصيات حقيقية في أرض الواقع ثم تجنح إلى الخيال في تنظيم علاقات تلك الشخصيات والوقائع في حبكة روائية مقصودة، ويضيف الروائي ما يمكن إضافته لتأكيد وجهة نظره الفكرية والجمالية، كما أن رواية السيرة ايضا تجنح إلى اعتماد حقيقية وصدق الوقائع والشخصيات التي تكوّن المادة الحكائية لتلك الرواية التي تعتمد ايضا الخيال في تقديمها كرواية تحوز على شروطها الفنية والفكرية كما أن الرواية التاريخية فإنها أيضاً تركن إلى أحداث سابقة لزمن الروي والتلقي إلّا أنّها تشكّل مفصلاً في الوجود السابق للجماعة ويمكن الانطلاق منها لمعالجة مشكلات الواقع الآنية وفق متخيّل يحافظ على جوهر وتفاصيل الوقائع الماضية بما يضمن حضورها في ذاكرة القارئ المعاصر، وفي جميع هذه الحالات المشار إليها آنفاً، فإنّ القارئ يستحضر المخيال الشخصي والجمعي أثناء عملية القراءة من دون أن نضعه في منطقة التنبيه التي تضمنها المناص .
بعد تقديمها للعرض التحليلي لماهية (المناص) وموقعه في الرواية وأهميته وموجهاته، يمكننا اعتبار المناصّين المذكورين أعلاه (أ) و(ب) حتى في وضعهما المناقض أحدهما الآخر، إن هما إلّا من المناصات التنبيهيّة الخارجية المتغيرة اي بالإمكان رفعهما من كتاب الرواية من دون أن يؤثران في متن الأصل، إذ إن وظيفة هذه المناصات تنبه القارئ إلى كيفية تناول النص حراك الواقع وتكوين وجهة نظر تنتجها عملية القراءة، فالتنبيه الذي قامت به هذه المناصات لم يكن إلّا تأكيد الروائي على أن أحداث رواياته وشخصياته لم تأتِ من فراغ وانما هي ما يحفل به الواقع وأنها خضعت لإعادة إنتاج ليتضمنها المتن الروائي بصيغته الفنية من دون التوثيقية.
ونستطيع القول بأن القارئ أثناء قراءته للرواية فإنه يستدعي مخزونه المخيالي الجمعي أو الفردي ليصل الى طبيعة التعالق بين النص الروائي ونص الواقع.