الغرب وبوصلة الأحزاب السياسيّة

آراء 2019/04/28
...

د.غانم فاضل
منحت نتائج الانتخابات التشريعيَّة في بعض الدول الأوروبيَّة الأحزاب الشعبويَّة اليمينيّة تفويضاً لدخول مُحادَثات لتشكيل الحكومات،أو دخول البرلمان لأوَّل مرة كما هي الحال مع حزب البديل الألمانيّ. والسؤال الذي ينبغي طرحه هنا:هل يتجه المجتمع الغربيّ نحو اليمين الشعبويّ؟ ولماذا؟ مع صعود أحزاب يمينيَّة مُتطرِّفة بقوة في كلٍّ من ألمانيا، وفرنسا، وهولندا،وبولندا، والتشيك، ومُؤخَّراً النمسا أضحى المجتمع الأوروبيّ يعيش في مناخ اجتماعيّ، وسياسيّ مختلف تماماً عمّا عاصره منذ نهاية الحرب العالميَّة الثانية. وهذا يقودنا للتساؤل: لماذا تآكلت شعبيَّة اليمين، ووسط اليسار في أوروبا؟  فكما هو معلوم أنَّ الأحزاب الاشتراكيَّة كانت فخورة يوماًما بهيمنتها على المسرح السياسيِّ الغربيِّ، ولكن يبدو أنَّ الوضع مؤخر اًتغيَّر مع تمدُّد التيار اليمينيّ الشعبويّ على المستوى الدوليِّ من المحيط الهادي حتى بحر البلطيق، ولكن ما الذي أدَّى إلى هذا المناخ الجديد؟
الجدير بالمُلاحَظة أنَّ بعض الأحزاب المُحافِظة، وحتى المُعتدِلة بدأت منذ فترة قصيرة تـُناغِم مطالب الناخب الأوروبيّ بالاتجاه نحو اليمين. فالحزب الديمقراطيّ المسيحيّ الألمانيّ بقيادة ميركل بدأ بتغيير برامجه الانتخابيَّة، ولا ننسى كذلك حزب الشعب النمساويّ المُحافظِ بدأ-أيضاً- بمُغازَلة الناخب اليمينيِّ حتى انه تفوَّق في بعض الأحيان على غريمه حزب الأحرار اليمينيّ في شعاراته.  والحق أنَّ هناك اختلافات بين هذه الأحزاب اليمينيَّة في أوروبا..والقاسم المُشترَك هو أنـَّها جميعها يمينيَّة آيديولوجيّاً،وذات صبغة رافضه للآخر المُختلِف، ويُمكِن لها أن تتعاون داخل قبة البرلمان الأوروبيِّ؛ للحُصُول على نوع من التأثير، وطرح أجنداتها المُتطرِّفة؛ وهذا لا يعني -بالضرورة-انـَّها متشابهة آيديولوجيّاً, فحزب الجبهة الوطنيَّة اليمينيّ الفرنسيّ يدعو إلى الخروج من الاتحاد الأوروبيِّ؛ وهو بهذا النهج يختلف مع حزب الأحرار النمساويِّ الذي اشترك بأكثر من حكومة نمساويَّة، ويدعو إلى البقاء في الاتحاد الأوروبيِّ، أمَّا حزب البديل في ألمانيا حديث النشأة، والذي دخل البرلمان لأوَّل مرَّة في الانتخابات الأخيرة لسنة 2017 يختلف عن الحزبين اليمينيّين في كلٍّ من فرنسا، والنمسا في طرحه. 
كما يبدو لي أنَّ هنالك عِدَّة عوامل أدَّت إلى صعود اليمين بهذه القوة، والسرعة، وأنَّ أهمَّها الهجرة المُتزايدة إلى دول الاتحاد الأوروبيّ، وتآكل الأحزاب الاشتراكيَّة، علاوة على تململ الناخب الأوروبيِّ من المناخ السياسيِّ السائد..كلُّ هذه العوامل، وغيرها أدَّت إلى خلق جو مُناسِب لصعوداليمين.فقضايا الهجرة، والمواقف المُتشدِّدة تجاه الإسلام أدَّت إلى تحوُّل بعض الأحزاب المُعتدِلة في خطابها الانتخابيِّ إلى أقصى اليمين. إذ تركّز كثير من النقاشات في المُجتمَع الأوروبيّ، وأروقة البرلمانات الأوروبيَّة حول تأثير سياسات الهجرة في الأمن، والهويَّة الثقافـيَّة الأوروبيَّة ممَّا يجد صداه في تأييد للأحزاب اليمينيَّة الشعبويّة كمنصات كراهية للأجانب. تاريخيّاً وبعد الحرب العالميَّة الثانية، أي:بعد انهيار الأحزاب الفاشيَّة، والنازيَّة وصلت الأحزاب الاشتراكيَّة الديمقراطيَّة إلى السلطة بحراك اجتماعيٍّ سياسي، وصعود الطبقة العاملة، وبُرُوزها كقوة مُؤثـِّرة في المشهد السياسيِّ لأغلب الدول الغربيَّة، لكنَّ قوة هذه الطبقة، أي: الطبقة الاشتراكيَّة بدأت في التراجُع مع تراجُع نسبة التصنيع في الناتج المحليِّ الإجماليِّ، ففي الخمسين سنة الماضية انخفضت مساهمة قطاع التصنيع في الناتج المحليِّ الإجماليِّ إلى الرُبع في معظم الدول الغربيَّة؛فخسر التيار الاشتراكيّ قاعدته الشعبيَّة المتمثلة بالطبقة العاملة، ويبدو ذلك جليّاً في الانتخابات الأخيرة في بعض الدول الأوروبيّة إذا ما استثنينا من ذلك بريطانيا التي مازال فيها الحزب الاشتراكيّ فعّالاً بقوة،إضافة إلى ذلك فإنَّ الأحزاب الاشتراكيَّة تخسر -أيضاً- الميزة التسويقـيَّة لخطابها السياسيِّ، ألا وهي إعادة توزيع الثروة، ودولة الرفاهية. وإذا نظرنا اليوم سنجد أنَّ الطبقة العُمَّاليَّة في أوروبا أصبحت تنتمي إلى الطبقة الوسطى، تلك الشريحة الاجتماعيَّة لا تتطلـَّع إلى المزيد من الضرائب. وإذا ما وجدت الأحزاب الاشتراكيَّة الديمقراطيَّة لنفسها أسلوباً تسويقـيّاً جديداً لتـُروِّج لنفسها داخل صفوف الناخبين الأوروبيِّين، فهي ستضعف رويداً رويداً بالتمثيل النيابيِّ، فضلاً عن أنَّ هذه الأحزاب مُحاصَرة بتقاليد، وأعراف آيديولوجيَّة من الحقبة الماضية. السبب الآخر لصعود اليمين المُتطرِّف-كما يبدو لي-هوتململ الناخب الأوروبيِّ من الأحزاب التقليديَّة المُتصدِّية للسلطة،فهناك من اتجه إلى انتخاب أحزاب، أو شخصيَّات جديدة لم تخرج من صومعة الأحزاب التقليديَّة كما هي الحال مع انتخاب السيِّد ماكرون في فرنسا، وانتخاب السيِّد ترامب في أميركا، وحتى خُرُوج بريطانيا من الاتحاد الأوروبيّ ما هي إلا مظاهر لهذا التململ، بينما اتجه البعض إلى انتخاب أحزاب ذات صبغة يمينيَّة شعبويَّة ليس إيماناً بالبرامج الانتخابيَّة لهذه الأحزاب، بل رفضاً للواقع السياسيِّ الحاليِّ، وللأحزاب التقليديَّة. 
المُجتمَعات الأوروبيَّة بعد انتهاء الحرب العالميَّة الثانية مرَّت بفترات من التحوُّل الاجتماعيِّ الديناميكيِّ البطيء، وهي -بهذا المعنى- تـُصحِّح مسارها بين الحين والآخر. فالحركة النسويَّة في أواخر عام 1960، والحركة الشبابيَّة المُسمَّاة جيل 68 في مُنتصَف الستينيَّات التي اكتسحت أغلب الدول الأوروبيَّة، وأميركا بالمظاهرات، وطالبت بإنهاء النظام الرأسماليِّ، وإشراك المُواطِن بالنظام التعليميِّ ما هي إلا حركات اجتماعيَّة طرأت على أوروبا، وتركت أثرها على النظام العالميِّ الجديد. 
والحقّأنَّالوضع الجديد الحاليّهو استمرار لهذا التحوُّل، ولكن باتجاهآخر هذه المرّة. إذ إنَّصعود اليمين الشعبويّ يبدو لي مظهراً لهذه الديناميكيَّة الاجتماعيَّة في المُجتمَع الغربيّ، التي كما يبدو أنـَّها ستضعف بعد بضع سنين من خارطة المشهد السياسيِّ الأوروبيّ بعد أن تترك أثرهاعلى الأحداث السياسيَّة القادمة،ولكن يبقى التفاؤل حاضراً،إذ إنَّ فوز حزب العمال البريطانيّ بنحو 30 مقعداً إضافياً، وحُصُول حزب البديل من أجل ألمانيا على نسبة 13 % في الانتخابات الألمانيَّة الأخيرة يُمكِن القول: إنَّ 87 % من المُجتمَع الألمانيِّ مازال يُؤيِّد الأحزاب الديمقراطيَّة الأخرى القائمة، وكذلك حُصُول الحزب الاشتراكيّ النمساويّ على 26,9 % ليحلّ بالمرتبة الثانية، وليحتفظ بعدد مقاعده السابقة ما هي إلا مصاديق لهذا التفاؤل، وكما أرى أنَّ أعداد المُؤيِّدين لتيارات اليمين المُتطرِّف لن تأخذ بالزيادة بالحدِّ الكبير الذي يجعل هذه الأحزاب فاعلة ومؤثرة في التشريعات القادمة، وقرارات السلطة، فما خلـَّفته هذه التيارات المُتطرِّفة تاريخيّاً من خراب حلَّ بأوروبا بوجه الخصوص، والعالم بوجه عام سيظلّ محفوراً في أذهان الأوروبيِّين.