{إلا أشوفك نجوم الظهر} في الحضارة السومريَّة

منصة 2023/08/03
...

 بهاء زهير أحمد القيسي

{إلا أشوفك نجوم الظهر} كما أقول دوماً كل حال في الوجود هو ذو أصل عراقي.. فهذه العبارة التي دوماً ما ترد على لسان الناس باللهجة العامية، والتي تعطي مفهوماً مباشراً في شديد التوعد بالعقاب أو غيره من الذي يوقعه من أطلقه على من يسمع، أو تضرب كمثال تقريبي لصعوبة حال ما ولندرته في الحدوث.
وكلمة "أشوفك" ليست من العامية، بل هي مفردة عربية فصيحة.. لغوياً وكما جاء في معاجم اللغة العربية.
(شَوْف): اسم مصدر شافَ
شَافَ الرجَلُ وأَشْرَفَ بمعنىٰ.. صعد مكاناً عالياً ونظر.
في الحضارة العراقية السومرية كان يقصد. بنجوم الظهر. هو نجم واحد لا غيره، وتحديداً هو كوكب الزهرة شديد اللمعان، والذي كان يتكشف للعين المجردة في بدايات شروق الشمس أوائل الصباح وإلى القرب من فترة الضحى في بعض أوقات من العام، على عكس النجوم التي كانت تظهر مع بدايات المساء وفي الليل.
وهذا الحال الفلكي قد انتبه عليه الناس. ومنحوه اهتمامهم في أديباتهم وتقريباتهم التعبيرية، لخصوصيته المنفردة في طبيعة الظواهر الفلكية التي ألفوها من خلال استكشافهم المبكر لنظام الفلك المتقدم الذي عرفوه هم، ولم يعرفه غيرهم من شعوب المنطقة المزامنين لهم.
وكان للسومريين تقسيم فلكي خاص، حيث كانوا يعدون أرقام الكواكب بالعكس أي أن كوكب "بلوتو" ليس كوكباً في حساباتهم، وبالتالي رقم واحد وهكذا إلى أن نصل إلى كوكب الزهرة، حيث يكون رقمه حسب طريقتهم في العد العكسي ثمانية.
وكان يرمز للجرم السماوي هذا بشكل نجم له ثمانة نقاط من خلال مربعين متعاكسين، وهذا ما وصل لنا من خلال المشاهد على الأختام الأسطوانية، التي تتضمن مجالس الملوك وتلقيهم تعليمات الآلهة، وما ورد أيضاً في الرقم الطينية المكتوبة بالمسماري.
كوكب الزهرة الذي نال كل الانتباه، لم يمر مرور الكرام لدى السومريين، فقد أصبح رمزاً مهماً في الحياة الدينية (إنانا إلهة الحب.. والحرب والسلطة السياسية.. ملكة السماء ذات رمز الأسد والنجمة الثمانية زوجة الإله تموز)، حيث انتقل هذا الجرم السماوي "الزهرة" لكل حضارة شعوب وثقافاتها في المنطقة وما حولها.
 فمثلاً أفروديت ربة الحب والجمال والخصب حلت نسخة من كوكب الزهرة السومري في الأساطير اليونانية، وليس بعيداً كانت فينوس لدى الرومان، وعشتروت عند الفينيقيين، كما وتشكلت صفاتها في أدوارها الدينية والأسطورية نفسها في حياة البشر من واقع التأثير السومري.
وقد عرف العرب كوكب الزهرة بفتح الهاء، واطلقوا عليها لفظ الكوكب الأبيض أو المستنير نهاراً. إذ قيل زهر زهراً والأزهر أي الأبيض. وأيضا ورد في الشعر. الكثير من الشواهد، حيث قال أبو اسحاق الصابي: (وخذ الزهرة أفعالها/ في عيشك المستقبل الأرغد).
وقال المؤرخ الإغريقي هيرودتس إن "العرب كانوا يعبدون نجم الزهرة وأسموها العزة وهي آلهة أنثى، وهي من أعظم أصنام قريش، وكانت موجودة في وادي نخلة، إذ يقدم لها القرابين ويزورونها.
كما واستعملت إشارة كوكب الزهرة في الفترة المسيحية المبكرة المتمثلة في النجمة الثمانية، والتي تسمى نجمة البتول أو نجمة بيت لحم. وقد ظهرت جلياً في العديد من الأيقونات والرسوم التي رسمت وزينت جدران الكنائس وغيرها من أماكن العبادة، حيث جاء في سفر متي: (إن نجما ساطعا أنار السماء فوق مدينة بيت لحم، وساعد نوره ملوك الشرق الثلاثة في الاهتداء إلى مكان مريم العذراء وابنها يسوع بعد ولادته). وكذلك تشير النجمة الثمانية إلى تعميد السيد المسيح حين كان عمره ثمانية أعوام.
ولم يغفل كوكب الزهرة إسلامياً، حيث تم ذكره في القرآن، من خلال قسم الله تعالى (باِلخُنٓسِ) وهي الكواكب التي تخنس، أي تتأخر عن سير الكواكب المعتاد إلى جهة الشرق، وكان كوكب الزهرة من ضمن الكواكب السبعة.
وذكر القرآن الكريم النجم بصيغة منفردة أربع مرات، في مواضع مختلفة، لكن أقرب الآيات التي لها إشارة واضحة لكوكب الزهرة، حيث ذكرت في (سورة النحل الأية 16) في قوله تعالى " وَعَلَامَاتٍ  وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ "، وفي سورة الطارق الأية 1و3 " والسماء والطارق وما أدراك ما الطارق النجم الثاقب ".
وقد تم اعتماد النجم الثماني المشترك في المركز والمائل أحدهم عن الآخر بمقدار 45 درجة لربع الحزب في القرآن الكريم، حيث قسم كلام الله في المصحف الشريف الى 30 جزءا، وكل جزء إلى حزبين، وكل حزبين إلى أربعة أجزاء ويسمى الواحد منها ربع حزب.. وهو تقسيم اصطلاحي اجتهادي.
أما في الفترة العباسية كان يسمى كوكب الزهرة نجم الزهراء، وقد استخدم بغزارة في هذه الفترة الغنية فنياً وأدبياً، ومع اتساع رقة الخلافة الإسلامية لبقاع شتى في الكثير من الزخارف، ودخل في تشكيل الخطوط، وكان شكل النجمة المتعاكسة المربعات ذات الثماني نقاط لها سمة واضحة في تشكيل أغلب العناصر العمارية، حيث باتت الصفة الفنية الملازمة في هذه المرحلة، وخير شاخص لها في قبة الصخرة وتوصف أنها تكوين هندسي متميز من حيث التقارب والتناظر والتوازن.
وفي عهد قريب استخدم النجم الثماني سياسياً في تكوين الدولة المرينية في المغرب على يد السلطان المسلم يعقوب بن عبد الحق، وتحديداً منذ عام 1244م - 1465م.
وعلى الطرف الاخر من العالم، وفي أمريكا الجنوبية ظهر هذا الرمز في حضارة الأزتك في المكسيك وشعبها، الذي كان يسمى شعب الشمس، وكانت عبادتهم تتمحور حول الشمس والقمر وكوكب الزهرة والذي اسموه نجم الصباح والمساء (كزولوتل) اله نجمة المساء، أي الزهرة ورمزة النجمة الثمانية.
لا نعرف كيف سافر هذا الرمز من أقاصي الأرض من الحضارة السومرية إلى هناك، وكيف حل في كيانهم كعنصر حتمي في حضارتهم. هذا اللغز ربما في القادم من الاستكشافات سوف نجد أجاباته على ما يصعب تفسيره منطقياً في الوقت الحالي، لكن كل الذي نعرفه الآن أن العراق وحضارته أصل كل وجود في هذا العالم.

 ‏منقب آثار