ياسين طه حافظ
ضمن مراجعتنا لما ألفنا وما ورثنا، أجدني اليوم أمام مسألة غيري أولى بها. أعني أن يتبناها رجل فلسفة مثلا لا أديب، ولكن لأن فيها جانباً يخص الثقافة العامة ويخص الأدب أكثر، قلت: أثيرُ هذا الموضوع لعلنا نلامسُ بعض ما يهمنا اليوم من تفاصيله. حديثي عن معنى «الخير» ومفهومه. وهنا نتذكر أن كلمة الخير في الانجليزية لها، فضلا عن مهامها العديدة وظيفة خاصة من حيث علاقاتها بالناس وسلوكهم. وهذا وارد أيضاً، وبقدر مواز في كلمة «الخير» العربيَّة. لنا مثلا إنسان خيِّر وكتاب خيِّر أو «هو عمل خيراً». وهذا يعني الإنسان أو الفعل أو الشيء الذي يتصف بما يرضي الناس ويلقى استحساناً.
وأن هكذا إنسان خيِّر أو عمل خيِّر او شيء هو من، أو ما، يحظى بمقاييسنا الأخلاقيَّة. ومهما حاولنا التجريد فمعنى الخير هنا يتصل بما ينفع الناس، يريحهم، يوفر لهم، يحميهم.. الخ. وعرفاً، الخيِّر هو من يسلك ويقيم تعاليمه على أسس التقاليد المستقرة، دينيَّة أو اجتماعيَّة. بعد الرسائل السماويَّة والتعاليم الدينيَّة كانت هذه طاعات وتبنيات لها صلة بالطابع التجريبي أو العملي، وما توصلت لـ الخبرة الإنسانيَّة بعد العصور والعهود التي مرَّت مما ينفع الإنسان أو يُديم سلامته وتآلفه الاجتماعي. التمرّد على المتفق عليه من سلوك، تهديد لمعنى أساس من المعاني اللازمة للديمومة ولسلام الناس.
لكن هذا ليس حكماً عاماً ودائماً. فقد يكون الإنسان خيِّر وظرفه أو حياته سيئة غير خيِّرة. فهل نمنع التمرّد وندينه؟ والعكس أن تكون الحياة مستقرة فارهة محققة للسلامة والعدالة والإنسان ليس خيِّراً بمعنى يخترق سلامها أو يُربك استقرارها، هل الإنسان هنا ليس خيِّراً بسبب من خرْقه لما كان مُطَمْئناً ومُرضياً؟ منطقيّاً نعم، لكن فكريّاً، يمكن أن يرى هذا الفرد ما هو أفضل ويرى بعمل ما أو فكر ما، يكون الصافي أكثر صفاءً والحياة تزداد تقدماً او جمالاً أو معنى، هل نمنع هذا؟
ندينه؟
معنى هذا نمنع التفكير ونمنع أو لا نفيد من التقدم المعرفي او الرؤيوي للاشخاص الممتازين. ونسد الطريق على التقدم البشري الذي قد يبدأ برؤى عبقريَّة لأفراد.
جاء في بعض مفردات الفكر اليوناني أنّ «الخيريَّة» قد تكون مناطة بأداء مهمة اجتماعية أداءاً جيداً.
كبعض مهام الحياة الاجتماعية او بعض المهام الحربيَّة. اذاً، ما كنا نراه في الفضيلة صارت له صلة مادية ولم يبقَ معنى حسب.
عموماً ما الذي نستنتجه من هذه الافكار أو التصورات؟ ماذا يعني «الخير»؟ واضح أنّه ذو صلة بما ينفع. ينفع الأفراد، ينفع عموم الناس، ينفع العمل، ينفع في أداء المهام، وينفع طبعاً في رفد الفكر بما يستجد من أفكار.
هل يوصلنا هذا، وعلينا احترام المنطق، إلى أن الأدب «الخيّر» هو الادب الذي ينفع الناس؟، لكن أي نفع وما نوع نفعه؟، تماماً كما ورد في تسلسل التصورات أو الافكار السابقة: ينفعهم في عيشهم وفي سلامهم وفي تحسين رؤاهم وأفكارهم. ونضيف لذلك يمسح القديم الضار من الأرض بأنواعه ويُحسِّن الذائقة ويزيد من الاخلاقيات الجيدة والتهذيب، تهذيب السلوك والأفكار. أصارحكم أنّي غير راغب في التفكيك أو في المتابعة الفلسفيّة ولكني كما قلت أكثر من مرة معنيّ هذه الأيام، الأيام المتبقية من عمري، بمراجعة المفاهيم ومحاولة ايجاد أسس يمكن الركون إليها في العرض والاستنتاج.
أين موقع الإبداع من هذا الكلام؟ أظن موقعه هو موقع الفرد المتمرّد وموقع ذي الرؤية او الرؤيا الأفضل والأرحب. وهو ايضاً في موقع المُناطة به مهمة ويحسن أداء هذه المهمة من غير تحديد نوعها ما دامت في الصالح الإنساني والمجتمع الذي أناطه بها.
في الأدب يخرج الأديب عن الأساليب المستقرة عن التقنيات المتّبعة والمألوفة، يرفضها متطلّعاً لسواها تأكيداً لاستحضار الأكثر نضجاً والأفضل- ودائماً بحكم ما قدمنا- والأنفع! اتساع الدلالة وعمقها يؤديان الى اتساع الجدوى الفنيَّة وعمقها يبقي ضمان أفضليّة الجديد بجديته وعمق المعرفة وراءه وألّا يكون خروقاً فارغاً أو اضطراباً ونبقى بلا بديل عملي نافع بعد خراب البساتين..
لكن من يستطيع هنا أن يوقف الضار وقد يكون نافعاً ويحقق جديداً وتقدماً؟ نحن مهددون بانهيار القيم الأخلاقية وانطفاء الأفكار العظيمة التي ابتدعتها البشرية على مدى عصور، وبافتقاد الثقافات الجيدة الراسخة والمهمة، والادب الإنساني بشوامخه مع حركة الزمن الضخمة والعشوائية التي تسمح لكل شيء. كما الغايات في بدء الحياة، تسمح لكل شيء الضار والنافع والرقيق والمفترس والنيران والجداول، ولا نظام ولا أحكام.. هذا غير جائز في حياة علميّة وفنيّة عاقلة.
أظن حضور المعايير العملية ومصلحة الإنسان وسلامة الحياة بوْصلةً لا بأس بها. وأن مفاهيم علمية ومعاصرة مطلوبة. لا نريدها تردع، ولكن يمكن أن تؤشر لما قد لا يكون نافعاً.. الخير يبقى مطلوباً ويبقى يحتاج إلى حُماة، مهما اضطرب العالم وفي اي حال كانت حياة الناس.
الخيرُ حاجة دائمة في الحياة اليوميّة وحاجة لازمة الحضور في الفنون والآداب. وهنا يقترب الخير من الجدوى، أنا، بعد هذا، فرح بهذا اللقاء الجميل.