عن وسائل التواصل ومثقفيها.. لا تكن عشبة تأكلها الريح

ثقافة 2023/08/09
...

البصرة: صفاء ذياب

في خطوة جديدة من نوعها، أطلق ناشطون مغاربة حملة لتنظيف مواقع التواصل الاجتماعي ممَّا أسموه (فايروس) التفاهة، فقام هؤلاء الناشطون بالتبليغ على صفحات عدّة على هذه المواقع لحذفها وإيقاف ما أسموه بـ(التفاهة).
وهذا الدور الذي قام به بعض الناشطين يتجلّى في التبليغ عن عددٍ من المؤثّرين الذين يؤثّرون سلباً في متابعيهم، وتمَّ على إثر ذلك إقفال عددٍ من هذه الصفحات، وأعلن النشطاء ذاتهم أنَّ حملات التبليغ ستتوجه أيضاً لشخصيات أخرى يتمُّ تداولها داخل مجموعات خاصة.

ربّما يكون هذا الخبر غير ذي أهمية لدى الكثير من الناشطين على صفحات التواصل الاجتماعي، إلا أنَّه في الوقت نفسه يشكّل بداية حقيقيَّة لتغيير توجّهات هذه الوسائل من الصفحات التي تسعى لتسطيح عقول شبابنا، إلى صفحات تعنى بالثقافة ونشر ما يمكن أنْ يلائم المجتمع والسياقات التي نعيشُ فيها.
أيُّ مجتمع؟
ربّما يمكننا أنْ نتساءل عن طبيعة هذا المجتمع الذي نسعى لتغييره؟ وهل أنَّ هذا المجتمع نفسه يريد هذا التغيير؟
ففي الوقت الذي يكرّم فيه رئيس وزراء سابق أحد “البلوغريين” الذين يقدّمون محتوى ساذجاً، وليس هابطاً فقط، تُطلق حملة من قبل الحكومة العراقيَّة لمحاربة المحتوى الهابط، التي عدّها الكثير من الناشطين والمتابعين بأنَّها خطوة لتقييد الحرّيات، في حين عدّها آخرون أنَّها محاولة لتصفية الصفحات التي تقف بالضدِّ من سياسة الحكومة. الأمران صحيحان في الوقت نفسه إذا لم تشكّل لجنة حياديَّة من أساتذة ومعنيين لتحديد ما إذا كان هذا المستوى هابطاً أم لا.
وحتَّى لو شُكّلت هذه اللجنة، فكيف يمكن إيقاف سيل التفاهة الذي يبثّه الانستغرام في الترويج لكتبٍ كان الورق الذي طبعت فيه أغلى من أفكارها السطحيَّة، ولا نريد أنْ نذكر أكثر من كتب مثل مميز بالأصفر أو مزّق دفتر اليوميات هذا أو أنستاسي أو زحمة حكي أو حتى روايات لكتّاب شباب أخذت بالرواج إلى الحدّ الذي فاق فيها روايات عالميَّة لأسماءٍ حصلت على جوائز كبرى ليس أولها نوبل ولا آخرها البوكر.
من يرسم طريقنا؟
في تسجيلات فيديويَّة مثيرة، ظهر الكثير من ناشطي مواقع التواصل الاجتماعي وهم يتحدّثون عن كتبٍ ما يجب قراءتها، وغالباً ما يحدّدون هذه الكتب بـ(خمسة)، من دون معرفة الأسباب التي تمَّ اختيار هذه العناوين على أساسها! في حين ظهر ناشطون آخرون يتحدّثون عن مصطلحات ومفاهيم نقديَّة بهدف توضيحها، مثل موت المؤلف، والبِنْيويَّة، والجندر، والاشتراكيَّة، والديمقراطيَّة، وغيرها الكثير، غير أنَّ قارئاً بسيطاً سيدرك كمية الأخطاء في طرحهم. وعلى الجانب الآخر تحدّثنا مع ناشطٍ آخر عن أسباب اهتمامه بما يقدّمه (وبعيداً عن ذكر الأسماء)، أشار إلى أنَّه يريد أنْ يكون واجهة للثقافة من خلال تقديم الكتب التي يرغب بالترويج لها... وفي النهاية نكتشف أنَّه لا يقدّم هذه الكتب بناءً على خبرة أو اهتمام حقيقي، بل هي فرصة للعمل من خلال الترويج لكتب دور نشر مقابل المال لا أكثر.
وهنا نقفُ على مرحلة مهمّة من مراحل الترويج للثقافة، فلو كان صاحب دار النشر أو عامل فيها يروّج لكتابٍ ما، لأصبح الأمر واضحاً، وهو ترويجٌ صريحٌ لمنتوجٍ تجاري، يقوم به أيُّ صاحب بضاعة، غير أنَّ ما يقوم به الناشطون أو البلوغريون يختلف تماماً، فهم يروّجون لثقافة جديدة حسب قولهم، ثقافة بعيدة عن سلطة النخبة التي يريدون إزاحتها، من دون أنْ يعوا - أو ربّما يدركوا هذا- أنَّهم يؤسسّون لأجيالٍ قادمة بُنيت على السطحيَّة والتفاهة، وبالتالي سنكتشف ما الذي يحدث في المستقبل القريب.
لا تكن عشبة
في مقالة للفيلسوف الإسباني خوسيه كارلوس رويث، يطرح فكرةً مهمة ضمن كتابه (فن التفكير) مفادها (لا تكن عشبة بل كن شجرةً)، موضحاً أنَّه يعتقد أنَّ هذه الاستعارة شديدة التوضيح لفهم أيّ نموذج للسعادة هو النموذج المثالي للبناء، والاستفادة جيّداً من التفكير النقدي. وبوسعنا أن نختار سعادة العشب أو سعادة الشجرة. للعشب العديد من المزايا، فإنَّه من الناحية الجماليَّة جميلٌ للغاية، وإذا استلقينا عليه فسنلاحظ كم هو مريح. كما أنَّه ينمو بسهولة كبيرة، ولا نحتاج إلى الانتظار لفترة طويلة للاستمتاع به. فهو يُزرع ويُسقى قليلاً كلّ يوم وينمو، وهو نبتة شديدة الرضا بالقليل، لكنَّ به عدّة عيوب ينبغي أنْ تؤخذ في الاعتبار: فهو ذو جذور هشّة وضحلة، بالقدر الذي يمكّن أيّ شخص أن يجذبه جذبة خفيفة من اقتلاعه من دون جهد يُذكر؛ وهو يحتاج إلى رعاية يومية، كما أنَّه رقيق نسبيّاً؛ ويعاني كثيراً من تغيّرات الطقس، وسيكون أوّل ما يجف إذا لم يتوافر له الماء أو يتعفّن إذا هطلت عليه أمطار شديدة ومستمرّة؛ وفضلاً عن ذلك، فإنَّ السهولة التي ينمو بها هي ذاتها التي يموت بها، ويمكن لأيّ حدث أن يؤثّر في تكوينه الهش.
غير أنَّ الشجرة على النقيض تماماً. تستغرق بذرتها وقتاً طويلاً قبل أن تنبت، ونحتاج إلى سنوات طويلة لكي نستمتع بظلّها. وهي تنمو بوتيرتها الخاصة، وليست في عجلة من أمرها لاستعراض جمال فروعها وأوراقها، بل يكون ذلك لترتكز على جذع قوي، وقبل كلّ شيء، لتطمئن إلى جذور تسمح لها بمواجهة الحياة من دون خوف. وهي لا تحتاج إلى رعاية كبيرة، لا تحتاج سوى القليل من الماء في البداية، ثمَّ تنطلق جذورها باحثةً عن الغذاء، فهي التي تتعمّق، وهي التي يتعيّن عليها أن تتمكّن من الإمساك ببقيّة الجذع. وفي مقابل العشب، لن تواجه الشجرة أيّة مشكلات مع تغيّرات الطقس، ولن تخشى العواصف الكبرى. ومع امتلاكها جذعاً قويّاً فإنَّ العواصف قد تكسر بعض أغصانها أو تُسقط أوراقها، ولكنَّ الشجرة سوف تظل شجرةً.
ويضيف رويث: والواقع أنَّه عندما يزداد جذعها قوّة، فإنَّها لن تحتاج إلى قدر كبير من الرعاية، فستصبح قادرة على الاستمرار في النمو من دون مساعدة كبيرة. وما إن يتمَّ نضجها بهذه العملية البطيئة، حتَّى تكون قادرة على منح الظل للأشخاص الذين يقتربون من جذعها، ومنح ملاذ لكائنات أخرى لتقف فوق فروعها، والسماح لغيرها ببناء أعشاشها، حيث تأوي إليها من العواصف وتستظل بأوراقها من حرارة الشمس.
ويؤكّد رويث أنَّ تعلّم السعادة، والتفكير بطريقة نقدية، والصحة العقلية الجيدة، يستغرق وقتاً طويلاً، وفي مجتمع الآنية والسرعة، والتغيّرات الحياتية المفاجئة، والمكافأة الفورية، هناك العديد من الأشخاص اختاروا- تقريباً من دون أن يدركوا- أن يصبحوا عشباً، وهو نبات ينمو بسرعة، ويبدو في مظهره شديد الاخضرار ذا لمسة ناعمة ومبهجة، ولكنّه عُرضة لتقلّبات الطقس كلّها والإتلاف البشري. وبالرغم من أنَّ هذا العشب سوف ينمو بسرعة كبيرة ليظهر مدى اخضرار قوامه، فإنَّه لابدَّ له من أن يحيط نفسه بالمزيد من العشب وأنواع النباتات الأخرى، لأنَّ العشب وحده لا يصنع حديقة.
ويعتقد رويث أنَّ نموذج الحياة ونموذج الفكر ونموذج السعادة هي نماذج تتجه في تزايد نحو الشكل العشبي. أشخاص يفعلون ما يفعله الآخرون، ويعتقدون أنَّ مفهوم الحياة والسعادة هو ما يقوله هؤلاء الآخرون، ويحتاجون إلى جهد الجميع، ولكن حين يواجهون أدنى قدر من المتاعب، كبضعة قطرات من المطر، أو شمس يوم صيفي، أو ركلة بسيطة، فإنَّهم يعانون كثيراً، إذ ليس لديهم الجذر ولا الساق المناسبة لمواجهة الشدائد.
فالأشخاص الذين يكبرون كالعشب هم الذين يعانون أشدَّ المعاناة من التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية وتفاهاتها، لأنَّهم لا يعرفون كيف يفصِلون أو يميّزون بصورة مناسبة بين المهم والسطحي. ومن ناحية أخرى، فإنَّ الشجرة لن تدخل في أزمة وجودية لأنَّها تمطر أو لأنَّ الرياح تهبُّ أو لأنَّ شخصاً ما قرّر أن يرقد على جذعها أو يأوي تحت أغصانها. وليس ثمَّة شيء يمكنه أن يمنع الشجرة من الاستمرار في النمو إلَّا أن تقع لها كارثة محقّقة.
وفي العالم الذي نعيش فيه، يصعب غرس الأشجار، لأنَّ الأمر يستغرق وقتاً ونحن نريد نتائج فورية. ولكنَّنا لا نستطيع أن ننسى أنَّنا إذا تمكّنا من الحصول على سعادة عميقة الجذور، مثل الشجرة، فلن نكون سعداء على نحوٍ هادئ وآمن فحسب، بل إنَّنا سوف نساعد الأشخاص الذين يقتربون منَّا على الاستمتاع بظلّنا وجذعنا، والحصول على مكان يأوون إليه عندما يحتاجون إلى ذلك.
ولابدَّ من أن نضيف إلى هذا أمراً مهمّاً: لن يكون الإنسان سعيداً إذا لم يكن على وعي تام بسعادته، وإذا لم تكن سعادته مصدرها ذاته، وأن تنعكس على ذاته. إنَّ الشعور معناه العلم، والقدرة على القيام- وفقاً لسقراط وما جاء في كتاب دلفوس- بالتمرين الأكثر تعقيداً للحكمة من بين ما كان قائماً من تمرينات: وهو أن يعرف الإنسان نفسه. إنَّ طفلاً عاديّاً يقضي اليوم في اللعب مع أصدقائه، يضحك ويبكي ويأكل مع والديه، ويمرح...، لهو طفل سعيد في نظر أيّ إنسان بالغ، ولسوف يتغيّر بسببه الكثيرون. تخيّل للحظة كيف سيكون من الرائع أن تكون قادراً على العودة إلى الطفولة، مع تلك البراءة، حيث لا ضغينة، ولا مسؤوليات، وتلك العاطفة من أحبائك.
ولكن لا تنخدع بهذا، فالأطفال سعداء بالطريقة الوحيدة التي يمكنهم بها أن يكونوا كذلك، كأطفال، بعقليّة الأطفال وفي إطار فهمهم للسعادة، سعادة على مقاس العشب الخفيف والهش. وهم يتأمّلون بالكاد في نموذج الرفاهة، لأنَّنا نتحدّث عن سعادة طفولية للغاية، إذ ليس من الممكن أنْ تكون سعادتهم على نمطٍ آخر، فإنَّها لم تتحقّق لهم عن سابق مهارة، ولم تُبنَ لديهم أو يتأمّلوها وهم يعون ماهيّتها. ومشكلة العديد من البالغين أنَّنا ما زلنا متشبّثين بهذه الفكرة عن السعادة الصبيانية، أعني سعادة الخلو من المسؤوليات، والضحكة السهلة، والاستمتاع باللحظة من دون مشاريع حرّة في الحياة، ولكنَّ الرغبة في استبدال السعادة غير الواعية عند الطفل بالسعادة هي ضرب من الخطأ، لأنَّ هذا النموذج من الرخاء هشٌّ وضعيف.
فيا تُرى، هل تريد أن تكون عشبة- حسب كلام رويث- في وسائل التواصل الاجتماعي، ستقلعك أية ريح حتى وإن كانت بسيطة، أو تريد أن تكون شجرةً، وارفة بظلالها، وثمرها لا ينقطع على مدار السنين.. الخيار لك!