قصة الحكومة الرقيقة والحاكم الحكيم

آراء 2023/08/09
...

 أ.د عامر حسن فياض
حين غالت الكونفوشيوسية في اهتمامها بشؤون الحياة وتطرفت بالانشغال بأمور الانسان والمجتمع، وأعرضت عن كل ما يتصل بالشؤون الروحية، تبنت التاوية نزعة اعتزال الحياة الاجتماعية والتخلي عن المسؤوليات الرسمية، ودعت إلى التأمل في مفاتن الطبيعة والتسامي بروح الانسان عن الماديات، منتجة في هذا السبيل قدراً كبيراً من الاعمال الادبية الشعرية والتصوفية وكل ما يقع في نطاق الغيبيات والروحانيات، لينتهي امرها وقد تحولت إلى مدرسة شعوذة ودجل على أيدي فريق من مدعي العلم.
ويذهب الباحثون في الفلسفة الصينية إلى ان “لاو تزو/ المعلم لاو” هو واضع أسس التاوية ويعني اسمه (لاو – الرجل المسن) و(تزو- المعلم)، أي (المعلم العجوز)، وتعني كلمة التاوية (تاو) (النهج أو السبيل)، وهي تعني عند لاو تزو مصدر الكائنات جميعاً، الذي يسوس كل جوانب الحياة وهو الوحدة التي لا تتجزأ التي تحل في النهاية جميع متناقضات الوجود ومفارقاته، وبذلك يصبح (التاو) مماثلاً لمصطلح (الكلمة) في الأديان السماوية.
وتأثرت أفكار “المعلم العجوز” السياسية بسوء أحوال وطنه واضطراب أوضاعه وزعزعة قيمه الأخلاقية وما مرت به الصين من أحداث خلال حوالي القرنين والنصف، قتل فيها ستة وثلاثين ملكاً نصفهم قتلوا على يد أبنائهم.
ولعل لاو تزو كان الأقدر على الاحاطة بتلك الظروف والاحداث بحكم عمله كمؤرخ وأمين لمكتبة الوثائق التاريخية لدى حكومة (تشو).
ويستخدم لاو تزو مصطلح “حكيم” للدلالة على الحاكم، الذي يلتزم الحق في افعاله وينهج في سلوكه الطريق السوي والحكومة عنده شيء رقيق، يتأثر بأقل خطأ أو أدنى رعاية، اما الحكم فهو أناء مقدس يجب المحافظة عليه وتحاشي العبث به مهما كانت الاحوال والظروف.
ودعا لاو تزو الحاكم الحكيم لأن يبني سياسته على مبادئ:
- عدم التدخل في ما لايعنيه من شؤون الناس.
- تجنب الحرب.
- احتقار الترف.
- العودة بالشعب إلى حالة البراءة والبساطة التي سبقت المدينة ونشأة الحكومة.
ورأى المعلم العجوز أن شعب الحكومة المثالية يتصف بالبراءة وصدق النية وسلامة الطوية، ويتحرر رعاياها من الرغبة، فهناك رغبات برفضها لاو تزو ويستنكرها، وهو يرى أن الحاكم هو المسؤول عن وجودها كالألقاب والوظائف وما اليها من اسباب التمايز
الاجتماعي.
وتنشأ الرغبة في رأيه عن المعرفة فإذا نشأت كانت مصدر شقاء الانسان وتعاسته لذلك ينصح الحاكم بالحيلولة دون اكتساب رعاياه للمعرفة، التي تستثير رغباتهم الكامنة، ويوجب على الحاكم في مقابل ذلك ان ينكر ذاته في علاقته بالشعب فينفعه ولا يسعى بحثاً عن اعترافه الجميل وأن يتواضع أمام رعيته، لأن من يتصدى لقيادة شعب يكون مكانه آخر الصفوف، وكثرة القوانين في رأيه خطر يؤدي إلى استفحال اللصوصية والرشوة وقطع الطريق، لذلك فإنه ينذر الحكام بأن جورهم وطغيانهم يدفع برعاياهم لإيثار الموت على الحياة، ويجعلهم يخرجون عليهم وقد احتوت تعاليم التاوية على عناصر فوضوية بلغت حد دعوة بعض التاويين، لترك العالم يسير وفق هواه، والمناداة بعدم تقييد حرية الناس بإقالة الحكومة، حتى وإن كانت صالحة، لذلك تتضمن المؤلفات التاوية أنباء عن حكماء ترفعوا عن تولي منصب رئاسة الوزراء وزهدوا فيه.
ومضى تشوانج تزو (المعلم تشوانج) رائد التاوية ومفكرها الثاني، بعيداً في هذا الاتجاه عندما اعلن افتقار النظم السياسية والاجتماعية إلى اية فائدة أو منفعة، بل هي عنده مصدر متاعب الانسان وأصلها وكان تفسيره لذلك أن للاشياء طبائع مختلفة وأهواء متباينة لذلك تقتضي طبيعتها هذه تركها على اختلافها وعدم ارغامها على التطابق مع بعضها بما يضمن تكامل عناصر الحياة وانسجامها.
اما تدخل الحكومة في حياة الناس، فإنه وإن كان فيه عون لهم ومساعدة قد ينقلب إلى شر يحيق بهم مما يترتب عليه معارضته لفكرة حكم الناس عن طريق حكومة جاعلا سعادة المجتمع كاملة في عدم وجود مثل هذه الحكومة، دون أن يعني ذلك في رأيه شيوع الفوضى وحدوث الصراع، لأن الناس يميلون حسب اعتقاده إلى السلام بطبعهم وينشدون الامن والنظام، لارتباط كل ذلك بمصالحهم وسلامتهم، معبراً بهذه الآراء عن ايمانه بالحرية وثقته بقدرتها على توفير السعادة للناس، لأنها تتيح لهم تجسيد طباعهم الذاتية وتساعدهم على الانسجام معها، ولأن التاوية في صميمها ذات منحنى فوضوي، فقد اقترنت اقترانا وثيقا بنظام الحكم المطلق، حيث جعل بعض الحكام من آراء لاو تزو اساساً فكرياً لمظالمهم وطغيانهم، ومهما يكن من امر هذا الوجه السلبي للتاوية، فإن الاعتقاد بحرية الفرد المطلقة وحقه في أن يفعل ما يشاء ويتبع هواه وينصاع لنزواته هو الغالب على الجانب الفردي من افكارها.
ويبدو من المتعذر تصور وجود مجتمع يُحكم، وفقا لهذه المبادئ، لأن سكان المملكة المثالية استناداً إلى تلك المبادئ قليلون، وأهلها غير متعلمين أو تعليمهم بسيط، وهم عازفون عن الحرب وعن الترحال، ولا يختلطون بغيرهم من الأمم، إلا في أضيق الحدود الممكنة وحظهم من المدنية والحضارة في أضيق الحدود، وهذه الفكرة تشبه كثيرا ما ورد في غالبية كتب المدن الفاضلة والمجتمعات المثالية في الحضارات الاخرى.
لقد ساهمت التاوية بتأكيدها على الذاتية الشخصية واعتقادها بنسبية كل القيم في تثبيت النزعة الفردية، وتقديس الفكر الصيني لمبدأ التوفيق بين الآراء.
وإذا ما كان قد انتهى امرها في ما بعد بأن تصبح فلسفة دينية وعقيدة سلوكية، فإن تاثيرها ما زال كامناً في أعماق الشخصية الصينية وفكرها وسلوكها، حتى يومنا هذا، فالبساطة والطمأنينة وصفاء الذهن وحرية الروح صفات تلهم الفن الصيني وتثير الفكر وتحرك السياسة وتؤثر في سلوك الصيني فرداً
ومجتمعاً.