محمد صابر عبيد
الأسلوب هو دالة القارئ في تحقيق قراءة نوعيّة تبهر المتلقي وتعلمه وتضيف له، وأداة البناء الأسلوبيّ هي اللغة في سياقها التعبيري الخاصّ والنوعيّ، ولكل قارئ أسلوبه في تحقيق قراءته الخاصة، إذ على الرغم من أن القراءة في واقعها النظري تبدو وكأنها متساوية لدى الجميع، غير أن جوهر القراءة في تفاصيله النوعيّة الدقيقة هو ما يجعل كل قراءة مختلفة عن الأخرى ومغايرة لسواها.
الكتابة التي ينجزها القارئ بوصفها صورة عن ثقافته ورؤيته وإمكاناته ومرجعياته تغتني بروح القارئ، على النحو الذي يجد المتلقّي فيها هذه الصورة ويشعر بها ويتعلّم منها، فأسلوبيّة الكتابة تولّدُ عنصر الإمتاع بالمكتوب، والّلغة التي هي المصدر الأوّل للتشكيل الأسلوبيّ تذهب فضلاً عن ذلك نحو إنتاج المعرفة الجديدة برؤيتها الجديدة.
حين تتحوّل القراءة إلى كتابة لتكونَ نقداً في المضمون والممارسة الاصطلاحيّة فإنّها تنتخب أسلوبها الكتابيّ الخاصّ للتعبير، وهذا الأسلوب لا يتبلور في كينونته المستقلّة المميّزة إلّا بعد ممارسة كثيفة وخبرة عالية وعميقة وتحصين معرفيّ وإبداعيّ مستمرّ، لا بدّ من الانتباه إلى التطوّر النوعيّ لحركة الخصوصيّة التعبيريّة في الأسلوب الكتابيّ، والعمل على شحنها بما تحتاجه من طاقات تهدف إلى تمتين أواصر الفضاء الأسلوبيّ الخاصّ، بمعنى أنّ على الكاتب أن لا يكتفي أبداً بما يصل إليه من تقدّم وتطوّر في قدراته الأسلوبيّة، بل يسعى دائماً نحو المزيد من التقدّم والتطوير من دون مهادنة أو اطمئنان على حالةِ استقرارٍ محدّدةٍ، مهما استطاع أن يحقّق من منجزات على صعيد التفرّد الأسلوبيّ في مجتمع التلقّي.
النصّ الشعريّ له طريقته الخاصّة في القراءة وكذلك النصّ السرديّ والنصّ السيرذاتيّ بسبب الطبيعة الأجناسية المختلفة لكلّ نصّ، وربّما يكون السؤال عن اختلاف القراءة باختلاف الجنس الأدبيّ سؤالاً إشكاليّاً ينطوي على مقاربتين، الأولى تتعلّق بمفهوم القراءة العامّ في درجته الشاملة المطلقة، والثاني بمفهوم القراءة الخاصّ في درجته الاعتباريّة التخصصيّة.
القراءة في مفهومها العامّ وضمن سياقاتها المعروفة لا تختلف من حيث الصورة النظريّة في اشتغالها على جنس أدبيّ وآخر، لكنّها في مفهومها النوعيّ الخاصّ تختلف بالتأكيد، لأنّ كلّ جنس أدبيّ، وربّما حتى كلّ نوع داخل الجنس يفترض طبيعة قرائيّة مغايرة بحسب قضايا الجنس والنوع وإشكاليّاته الكتابيّة من حيث التعبير والتشكيل، لذا لا بدّ من فهم هذه الحقيقة واستيعاب معطياتها، والعمل على إشراك القراءتين العامّة والخاصّة في سياق واحد, على نحو يضمن حصول الشكل الأمثل للعلاقة بين القراءتين في سياق عالٍ من التفاهم نحو بلوغ هدف واحد.
المُتعةُ القرائيّةُ:
من دون أن تصل القراءة إلى مرحلة إنتاج المتعة القرائيّة تظلّ القراءة مهما كان مستواها العلميّ والمنهجيّ ناقصة، ويظلّ القارئ بحاجة إلى جولة جديدة يستكمل بها قراءته كي يبلغ مرتبة المتعة، وهي في الأحوال كلّها لا يمكن أن تتحقّق بسهولة، إذ هي بحاجة إلى طاقة شخصيّة ثقافيّة وعلميّة وأدبيّة ووجدانيّة ومزاجيّة وذوقيّة عالية، وحين ينجح القارئ المتمرّس في إنجازها فسيطمئن على أنّه حقّق قراءته المرجوّة وبلغ بها مرتبة النقد في وهجها المُبتغى، والقراءة هنا تخصّ حصراً النّصوص الإبداعيّة على نحو عامّ.
المتعة القرائيّة هي إحساس غامر يشعر فيه القارئ العارف والمُجرّب والمُمارس والخبير بعد إنجاز القراءة على نحو تسري في روحه وجسده طمأنينةٌ كاملةٌ، تُشعِره بطاقة الإضافة في الإنجاز، بمعنى أنّ القراءة الجديدة له انفتحت على رؤية جديدة وحقّقت جمالاً جديداً يتحسّسه ويراه ويلمسه ويشعر بطرافته وحيويّته، بما يجعله قادراً على إقناع الآخرين به في سياق تلقّيه وقراءته والاستمتاع بما ينطوي عليه من قدرةِ إمتاعٍ.
الوجدان القرائيّ لا بدّ أن يحضر في تجربة القراءة على نحو غزير واستثنائيّ، ويجب أن يحضر بطاقة كبيرة على الكشف وتلوين الجهد القرائيّ بحساسيّة خاصّة تحوّل القراءة إلى فعل من أفعال الجمال، على نحو تكون القراءة فيه مشحونة بما يمكن أن نصطلح عليه هنا بـ (ماء القراءة)، فمثلما لا يكون الشعر شعراً بلا ماء، ولا يكون السرد سرداً بلا رطوبة، لا تكون القراءة قراءة حقّة ومنتجة وفاعلة إذا كانت يابسة وميكانيكيّة ولا تهدف إلّا إلى بيان المعنى وتجلية الدلالة، فللقراءة غايات جماليّة لا حصر لها ولا يمكن أن تتوقّف عند حدود بلوغ المعنى.
لا يمكن توصيف المتعة القرائيّة بشكل واحد من أشكال هذه الممارسة وإجراءاتها المتعدّدة والواسعة، لأنّ صورة المتعة تظهر على أنحاء مختلفة من بداية فعل القراءة حتى نهايته، إذ تبدأ من متعة التلقّي القرائيّ الإجرائيّ المباشر حين توفّر العلاقة بين العين والكتابة تماسّاً بصريّاً مُبهِجاً، عندما تلاحق عدسة العين الكلمات المكتوبة في سياق تلقّيها الّلغويّ والفهميّ والإدراكيّ والتحسسيّ والذوقيّ، ورفع المقروء إلى حقل الذهن والتفكير من أجل معالجته وتدبّره وتفكيكه وكشف جماليّاته، على نحو يتلاءم مع طبيعة التفاعل مع قراءة العين وقراءة الذهن، فمتعة العين تتسرّب إلى الذهن وتزوّده بطاقات الإمتاع كي تتواصل المتعة فيه وإليه، لكنّ المتعة في منطقة الذهن تكون أكبر وأوسع وأكثف لأنّ المقروء يخضع فيها للتّحليل والتفكيك والتأويل.
إنّ البحث في طبقات المقروء وتداوله ومقاربته واستجلاء كوامنه والتدقيق العميق في مفاصله ومكوّناته، ابتداءً من طبقة الّلغة وفقهها وإبداعها، وما تفرزه من قيمِ صوغٍ ترتفع الّلغة فيها نحو مرتبة التعبير الأدبيّ المتحوّل إلى لغة أدبيّة، وللّغة الأدبيّة فقهها أيضاً، ومن متعة الإحاطة بهذا الفقه تتكشّف جماليّات التعبير اللغويّ، وهو ينتقل انتقالة بالغة الأهمية من مستوى التعبير إلى مستوى التشكيل، وحين تبلغ القراءة مرتبةَ تحسّس وإدراك هذا المستوى تكون قد وصلت أعلى مراحل المتعة، بعد أن تتكشّف للقارئ الرؤية الإبداعيّة العميقة للمقروء في منطقة التشكيل.