د. جاسم خلف الياس
ظهر أدب ما بعد الحداثة – كما وصلنا من أدبيات الغرب- في النصف الثاني من القرن العشرين في أوروبا؛ بسبب تصاعد الأحداث السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية والحربين الكونيتين وما رافقهما من مخلفات خلخلت النزعة الإيمانية، فتمظهرت الشكوك باتجاه اليقينيات التي ظلت مسيطرة على العقل الغربي لفترة طويلة، وانعدم نظام التتابع الزمني، وفقدت الهوية ممكناتها القارة، وتم التركيز على المهمش، وأخذ الإيمان بضرورة التقويض، بوصفه الفعل الذي يستنزف الترابطات البلاغية القديمة، ويحولها من الأصل إلى الاختلاف، ومن الحتمية إلى اللانهائية..... وغيرها من السمات التي أشار إليها إيهاب حسن وهو يقارن بين الحداثة وما بعد الحداثة.
وإذا كان الراوي في النظرية السردية هو المكون الرئيس لأي معمار سردي (قصة أو رواية)، وهو الذي يحرّك بنية النص التي رسم حدودها القاص أو الروائي، ويملك قصدية فاعلة في تحديد زوايا الرؤية، والتحكم بشكل مطلق في تقديم المروي (روي الأحداث، تقديم الشخوص، التعبير عن أفكارهم، تحليل صراعاتهم، وصف الأمكنة، التلاعب بالزمن..... وغيرها). فإن القارئ في هذه النظرية لا يقل فاعلية عن الراوي، وأقصد القارئ الحقيقي المتكون من لحم ودم، أما القارئ الذي نقصده في هذه المقاربة التنظيرية، فهو القارئ الذي يفترضه الراوي داخل النص.
إن ما يهمنا في هذه المقاربة التنظيرية هو علاقة (الراوي) بـ(القارئ) بوصفهما كائنين من حبر وورق، والمتواجدين في السرد بشكل تصوّري أكثر من تواجدهما بشكل حقيقي؛ لذا سوف نتوقف عن توصيفات ما بعد الحداثة وصيرورتها في الاتساع والشمول، واقصائها للثابت التقليدي، وازاحتها للمواقف المتعارف عليها في قصص ما قبل الحداثة، والتركيز على فاعلياتها في السرد المختلف، ومن هذه الفاعليات فاعلية العلاقة بين الراوي والقارئ الذي نحن بصدد مقاربتها، إذ أدّت الحوارات التي يجريها القارئ مع الراوي دوراً فاعلاً في تشكيل نوع من أنواع سرد ما بعد الحداثة، ألا وهو الميتا- سرد، وما حواراتهما إلا حوارات يفترضها المؤلف (الروائي) الذي هو من لحم ودم. عندها يجد القارئ نفسه - في هذا الاشتغال- داخل الأحداث التي غالباً ما يتكرر فيها ضميري المتكلم (أنا) وضمير المخاطب (أنت). وهذا يعني في أبسط معانيه أنّ هناك مساحة يمكن أن يتواطأ فيها الراوي مع القارئ، فيشغلها ويتوغل فيها، ليكشف لنا في الآخر أن القصة ليست واقعية، وكل ما فيها مجرد تخيّلات يختلقها الراوي من أجل امتاع القارئ واقناعه بما يكتبه الروائي. ولكن هناك ملاحظة يجب ذكرها وهي أنّ هذه المسرودات (غير الواقعية) ليست بجديدة، وليست من ابتكار سرد ما بعد الحداثة، ففي قصته الطويلة يؤكد غوغول على أنّ الواقع النصي الذي يكتبه الروائي ما هو إلا تخييل، وكل ما فيه مجرد وتصوّر، إذ يقول: (الكثير من أحداث قصتنا مغرق في الخيال ولا أساس له من واقع الحال... الأنف ص 119).
ولكننا هنا لا يهمنا التعامل مع الواقعية أو غير الواقعية بقدر ما يهمنا التعامل مع كل من الراوي والقارئ وهما داخلان معاً في السرد، ومثل هذا الاشتغال السردي نجده في قلّة من الروايات، فعلى سبيل المثال لا الحصر نجده في رواية (لو أن مسافراً في ليلة شتاء) لإيتالو كالفينو التي ترجمها حسام ابراهيم، ففي هذه الرواية يحاور فيها الروائي القارئ المفترض (القارئ داخل النص والماثل فيه والمشارك في صنعه) وهنا – حسب مقدمة المترجم للرواية- تجاوز كالفينو القارئ الضمني الذي لا يظهر مطلقاً خلال العمل وإنما يومئ إليه النص عبر سياقاته من خلال أيديولوجية المؤلف. كما تجاوز القارئ الذي قدمه جيرالد برنس (المروي عليه) الذي له خاصيّة فاعلة في النص، وله وظائف عدّة مثل التوسط بين الروائي والقارئ وتوجيه السرد. وإذا كان هناك من معنى لطلب الراوي من القارئ أن يتابع سير طبيعة الخيال القصصي، سنرى هذا المعنى يتجلّى في تقديم الحلول المغايرة للسائد والمألوف بشأن مفهوم القارئ، الذي قد يكون أكثر ثقافة من الكاتب، وعمليات القراءة، وهي تستولد من رحم الكلمة قارئها وكاتبها، في شراكة إبداعية أصلية، بقدر ما تطرح وظائف جديدة للقارئ لم يألفها (القارئ من خارج النص) ولا (القارئ الضمني) ولا (المروي عليه) وتطرح – في الوقت ذاته – تصوراً جديداً لفعل الكتابة وفعل القراءة.
وعلى هذا الأساس فالراوي والقارئ في رواية (لو المسافر في ليلة شتاء) لا يتواجدان في حقيقة الأمر إلا في داخل النص، وهو ليس المروي له، وإذا كان التمييز بين القارئ والمروي له في النظرية السردية مناظر للتمييز بين المؤلف والراوي، كون القارئ حقيقياً يمسك الكتاب بين يديه، والمروي وجود نصي مُتخيل، فإن القارئ في هذه الرواية متخيّل أيضا، وهذا ما جعلها تشاكس النظرية السردية التقليدية، وتنتقل بها من السكون إلى الدينامية.
إن اقتراحات القارئ للراوي في السرد المتشظّي وهما يخططان لبقاء نهاية السرد مفتوحاً، أو الاتفاقات التي تجري بينهما بشأن إبعاد اليقينات من الأحداث، والبقاء في دائرة الشك والاختلاف، أو التضادات التي تحوّل السرد باتجاه تعميق الهوّة بين التركيب والتفكيك، كل هذه الأفعال التي يحقق المؤلف عبرها تقويض الحدود بين الواقعي والمتخيّل، هي ركائز قويّة من مرتكزات سرد ما بعد الحداثة. ويبدو أن هذه المرتكزات تستقي تشكيلها من تفعيل آليات الواقعية السحرية ولا سيما العجائبي والغرائبي في الكتابة، وتستقي تدليلها من التنافر الذي يقع بين الحداثة وأسئلتها الوجودية، وما بعد الحداثة وأسئلتها المعرفية.
إن الإحباط الذي يصيب الراوي، والخيبة التي تفقده هويته (عبر فقدانه لوظيفته النصية المطلقة) لا ينفصلان عن الاحباط النفسي والفلسفي الذي يشعر به الإنسان الراهن في وحدته وانعزاله، فضلا عن رفض اليقينات التي لا تقود إلى كشف الغموض ولا تعمل على الوصول إلى المعرفة. وفي هذه الحال لا بد من تفعيل دور الراوي والقارئ في تمييع الحدود بين الواقعي والمتخيّل وهما يتفقان على تصوير الأحداث المدهشة أو الغامضة أو غير المحتملة، فيخضع كل منهما للارتباك الذي يسيطر عليهما، والحيرة في مواجهة التشظي القائم على تحطيم محددات الواقعي والمتخيّل، بوصف كل ما يجري سمة من سمات سرد ما بعد الحداثة. ولا يفوتنا أن نذكر أن اتفاق الراوي والقارئ في صنع مجريات الأحداث يحيل إلى سمة أخرى من سمات ما بعد الحداثة، ألا وهي الخنثوية التي (تعني وحدة الجنسين في الذات)، فيأتلف نسق الأشتغال لكل من الراوي والقارئ، ويتوحدان في تحطيم نسق النقاء، وفي تأدية دور كل منهما في التأليف والقراءة.