محمد حاذور
كيف تصل إلى المعنى المدفون بجوهر الأشياء وتمسك به وتهبه من دون أن تخسره أو تفقد منه شيئاً. هذه رحلة طويلة ومليئة بالمطبّات إلى أن تشتعل بداخلك البذرة بعد أن تعرضت إلى لهب النار المتقد والاكتواء بالجمرة حتى وصلت إلى تخوم النضج. فلا يهب المرء من ذاته إلا بعد أن تكتسب -هذه الذات- الغنى من الداخل. وفي هذه الرحلة الطويلة، رغم شدة قصرها، التي نسميها الحياة، قد تعلمك الظروف بمختلف أشكالها، أن جوهرا من جواهر الطبيعة هو العطاء/ الإيثار.
لأنَّ الأنانيَّة هي المرحلة الأولى من مستويات العيش. وقد تكون الأنانيَّة مرتبطة بطفولة مشوبة بنقص وارتواء. ومن الممكن أن تستمرَّ هذه المرحلة المبكرة إلى مرحلة متقدمة من العمر الإنساني، فتجد بعض كبار السن والعجزة تنطوي تصرفاتهم على طفوليَّة مخلوطة بأنانيَّة. والطفولة ليست أنانيَّة بقدر ما الأخيرة شكل من أشكال الطفولة. مرحلة مبكرة وأولى من العيش مع المحيط.
عاش أبو نواس حياة الحقائق الملموسة وترك الحياة الموعدة للمتأملين. يقول في أحد أبياته: “أنت للمال إذا أمسكته، وإذا أنفقته فالمال لك”. لا يكون المال هو الدراهم والدنانير والبيوت فحسب. المال ما ملكته بذاتك. لم تبقَ في نفس أبي نواس حاجة ورغبة إلا وطاوع نفسه بالمشي خلفها، سواء أكانت رغبة أو خمر، رفقة أو سهرة، كتابة أو قراءة (ثمة نصوصٌ كثيرة في ديوانه تدلُّ على اطلاعه على أدبيات الأديان التي كانت في عصره). قد يكون المال هو الحب، والحب هو أعظم قوة في الوجود. قد يكون المال هو خوض العيش كيفما اتفق السبيل لعيش تلك الومضة الخاطفة بين ظلامين. أن تعيش من دون أن تتحفظ وتخاف. الخوف بصورة ما، هو شكل من أشكال البخل، نقيض من الجرأة والجسارة. وذلك لا يعني أن يكون المرء مبتذلاً، إنما الخطو ثم الخطو على العيش والحب والعمل والشجاعة بقول ما يفور في الخواطر.
عاش الكثير من الناس حياتهم في الكد والعمل وجمع الأموال من دون أن ينعموا بعيشهم ويتبذهون بمالهم وما جنته سواعدهم. وهذا ما قصده أبو نواس في صدر البيت المذكور. وعلى النقيض من جامعي الأموال غير المتنعّمين بها، تجد أن أصحاب الدخل اليومي والشغيلة والعمال البسطاء وأجورهم القليلة، يمسكون بمعاني الامتلاك. صحيح أن حياتهم قاسية، لكنهم يملكون يومهم ويعيشون مشاعرهم، يبتسمون بوجه الحياة ومخلوقاتها وظروفها. ويمدون يدهم، رغم قصرها، للمساعدة وشد عضد الرفيق والصديق. فصاحب الأموال مهموم بتهويلها وتنميتها وبسطاء الناس يعيشون حيواتهم من دون الخشية من الغد وبلاويه وما يضمره القدر. وسيكون المرء سجين الأشياء التي يمسكها ويخشى التعاطي والانخراط معها. وعندما تنضج الذات لتكون ملك المرء ويدرك كيف يتعامل معها: سيحب ويعشق من دون أن ينتظر أو يفكر بالنهاية أو غيرها، وسيعمل بصدق لا يقلق إذا ما كان العمل قد نجح وكسب أو خسر. إذن، المال هو الاستمتاع بالرحلة والتجربة والحب والعمل، من دون التفكير بالوصول، لأن الحياة هي الرحلة والوصول هو الموت.
يقول غابرييل غارسيا ماركيز: “لو شاء ربي أن يهبني حياة أخرى، سأبرهن للناس كم يخطئون عندما يعتقدون أنهم لن يكونوا عشاقا متى شاخوا، من دون أن يدروا أنهم يشيخون إذا توقفوا عن العشق.. للطفـل سـوف أمنحه الأجنحة، لكنّني سأدعه يتعلّم التحليق وحده.. وللكهول سأعلمهم أن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان.. لقد تعلّمت منكم الكثير أيّها البشر.. تعلّمت أن الجميع يريد العيش في قمة الجبل غير مدركين أن سرَّ السعادة يكمن في تسلّقه.. تعلّمت أنَّ المولود الجديد حين يشدُّ على أصبع أبيه للمرة الأولى فذلك يعني أنّه أمسك بها إلى الأبد، تعلّمت أن الإنسان يحق له أن ينظر من فوق إلى الآخر فقط حين يجب أن يساعده على الوقوف.. تعلّمت منكم أشياء كثيرة..”. إذن، هذه هي دروس الهبة والعطاء والإيثار من أبي نواس وغابو. نتعلّم الانسجام والتماهي مع الطبيعة وأنهارها وترابها وكلابها والمحيط والناس والأشياء. إنَّ كلَّ أشكال التواصل مع الناس والحيوانات والأشجار هو تواصل مع الخالق؛ إنَّه التواصل
الأعظم.