نيك ريباترازوني
ترجمة: محمد تركي النصار
أمضيت وقتاً طويلا جداً من حياتي وأنا أفكر بالجمل، إنه لأمر يشبه القدر حيث الحقيقة ممزوجة بالمعاناة، فبين الكتابة والتعليم والقراءة. كنت دائماً في حالة تواصل مستمر مع الجمل. تتضمن الجملة كلية الأدب بصورة مصغرة والكلمات تشعّ طاقتها من خلال سياق الكلام والتوظيف، أما العبارة فتحمل معناها من خلال التجاور، وبخصوص المقاطع فإنها غالباً ما تكون صعبة الحفظ، إذ تكون ذهنيّة وعصيّة على الاستذكار. تمكث الجمل الأكثر جمالا وحذاقة في اللسان، ويتردد صداها في الفضاء، وبعد سنوات يمكنك تذكرها واستعادتها بنوع من الشغف والحنين.
الجمل مدهشة، أتحدث هنا عن مقالة براين ديلون الخاصة باللقب والاسم، تحت عنوان (اقترح جملة)، وفيها إشارة إلى كلمات جيرترود شتاين، حيث يستخلص بأنَّ واحدة من جملها: (هذا ما أريده بالضبط) هي ربط غير مباشر بين التعلّق الشخصي والتكريس المطلق للأشياء ذاتها، فالكلمات أيضا هي أشياء، والأخيرة ميّالة للاحتراق بقوة والإفصاح بصوت عال.
أحب طريقة محاكاة جمل ديلون، ثمة شيء يمتلك طاقة تحرر عالية بخصوص الانتماء لعالم الأدب والإقامة فيه.
تتراوح الجمل في المقالات بين تلك التي تقدم معلومة، والأخرى المتعلقة بالدين والجمل الوجدانيّة الغنائيّة، حيث نشعر نحن بالأخيرة أكثر: عندما يأخذ كاتب المقال نفساً عميقاً، وتتفتح عواطفه ليبدأ بالوصف الذي يكون على شكل عبارات تشكل طبقات، وبعد كل فارزة، محور أو نقلة مقبلة.
الشعراء يكتبون جملاً فيها توتر أعلى، وهو ما يعكس وعي الشاعر وإحساسه بالكثافة، فكل مقطع هو عبارة عن حقل خاص، وبالنسبة لي، انجذبت أولاً للرواية، ثم سرقني الشعر، وكنت دائم الحوار مع الجملة، أقرأ لشتاين، وجين ان فيليبس (التذاكر السوداء) وهو كتاب ساحر من الجمل المدهشة.
لقد سعيت لتوضيح وتعريف الجملة، لأنني اؤمن بأن البناء هو تجلي اللغة، والجملة يجب أن تبدأ وتنتهي مثلما نبدأ نحن وننتهي، ويجب أن تكون هناك قيمة سحريّة.
قصيدة النثر كنسق وبناء وأسلوب استحوذت على اهتمامي وعند الحديث عن الأصوليين فإنّهم غالباً ما يستخدمون الحدود الواضحة بين أنساق الكتابة لأغراض النقد.
لقد تعلمت بأن الحدود بين الأنساق والأجناس الكتابيّة هي الأكثر ثراء لنمو وتصاعد التجريب.
بدأت كتابة قصائد نثر لأفهم الشعر والنثر كليهما، وعليَّ أن أثمن استقلالهما المشترك في ما يتعلق بالجملة، ومثل العديد من قراءاتي وكتاباتي وجدت ما كنت أبحث عنه في المجلات الأدبيّة.
ظهر العدد الأول من مجلة (قصيدة النثر) عام 1992 وقد تصدر العدد تحذير إلى القارئ كتبه الشاعر روبرت بلاي: (تبدو مخازن الحبوب أكثر جمالا عندما تكون فارغة من حبوب القمح والشوفان تماماً، حيث تكنس الريح الأرضية الخشنة وتتسرّب أشعة الشمس خلال الشقوق بين لوحات الحائط المنكمشة)، نحن جميعاً ننجذب لذلك الضوء والطيور أيضا ترى الحرية في الضوء (ترفرف عالياً ثم تسقط مرة تلو الأخرى وغالباً ما تموت تلك الطيور التي تسقط في فخ مخازن القمح والشوفان لأنّها لا تعرف طريقة للمغادرة من خلال ثقب الجرذ (القريب إلى الأرضية).
كان بيتر جونسون مؤسس المجلة ينظر بتقدير عالٍ لوصف بينيدكت لقصيدة النثر الذي يتضمن.. (الاهتمام باللاوعي ومنطقه الخاص) في استخدام مفردات الحديث اليومي والاستفادة من روح اللذع والفكاهة، ويؤيد جونسون طبيعة علاقة قصيدة النثر بالفكاهة السوداء.
إنَّ الطريقة التي يتخيّل بها شعراء النثر الجملة أمر مثير للاهتمام حقا.. فمن دون زوايا تقطيع البيت الشعري يقف شعراء النثر تحت رحمة الهوامش حيث تزخر الأنساق اللغويّة بطاقة التوتر العالية.
في واحدة من قصائد العدد (عند القبر) تكتب نينا نيهارت عن أرملة اعتادت أن تأخذ ازهاراً عند زيارة قبر زوجها، وفي احدى السنوات لم تزهر الأوراد التي يحبها زوجها فكان عليها أن تنتظر، إذ لم تحتف بذكراه السنويّة.. وعندما تفتحت الأزهار جمعت باقة وذهبت إلى القبر لكن صوتا عاتبها بسبب التأخر في الزيارة ولأنها جلبت أزهار الجيرانيوم لكنها اوضحت له مقاطعة بأن هذه ليست أزهار جيرانيوم، بل زنابق والمشكلة في عدم التمييز بين الأزهار.
يستمر حوار الأرملة والشبح أليفا ويصبح القارئ جزءا من هذا الحوار بالرغم من أن هذا الحوار ينتهي بشكل مفاجئ.. تتوسل الأرملة بزوجها أن لا يذهب ويتركها.. (لا تذهب أرجوك) غير أن الصمت يخيم على المكان تماما: (كنت أحس بثقل الجملة الأخيرة ربما لأنني لم أكن أتتبعها في بيت شعري).
كتب إليوت مقالة قصيرة عام 1917 بعنوان (حدود النثر) مشيراً إلى عودة القصيدة في النثر متسائلاً عما إذا كان الشعر والنثر يشكلان وسطا للتدرّجات الدائمة وما إذا كنا نبحث عن طرق جديدة للتعبير معترفا هنا بوجود شيء غامض في الشعر والنثر مستخلصاً بأن (التحديد الوحيد المطلق هو أن هناك إيقاعا نثريا وإيقاعا شعريا).
بعد ثلاث سنوات من توقف مجلة قصيدة النثر عن الصدور ظهرت مجلة (الجملة) وهي تعنى بشعريات النثر أصدرها المحرر براين كليمنتس الذي كان يعد المجلة استمرارا لعمل جونسون من حيث مواصلة نشر قصائد النثر بالإضافة لأناقة الشكل بأزاء النثر الشعري وفي العدد الثامن وهو الأخير بالنسبة للمحرر كليمنتس ظهرت قصائد نثر للشعراء اوليفر دي لاباز، سيمون بيري، نن اندروز، مايكل باسيت وسارة بليك فضلا عن حلقة نقاش حول قصيدة النثر حيث يعود بيتر جونسون إلى شكله المفضل: أفتقد قصيدة النثر القصيرة اللاذعة بنزوعها للتهكم والهجاء وقفزاتها الداخلية المدهشة، معبراً هنا عن قلق أكبر: (بشكل عام فإن الغضب غائب في الشعر المعاصر وهو أمر يثير الدهشة لأنَّ هناك الكثير الكثير مما يثير الغضب).
* عن موقع لتريري هب