مسلم غالب
إذا كانت الفلسفة بشكل عام، منشغلة بالوجود، فإن فلسفة العلم، تتخذ من العلم والمعارف البشرية موضوعاً لها. وهذا هو الحال بالنسبة لفلسفة العلوم الإجتماعية، باعتبارها أحد أهم فروع فلسفة العلم. تُعَد فلسفة العلوم الاجتماعية، أساساً حَاسِماً لفهم الأساليب والنظريات المستخدمة في بحوث العلوم الاجتماعيّة، إذ تسعى لاستكشاف الافتراضات الأساسيّة والمبادئ والطرق المستخدمة في النظريات العلمية الاجتماعية، والتي تشكّل فهمنا للمجتمع والسلوك البشري. وهذا النص يستكشف المعالم الرئيسية والقضايا المتعلقة بفلسفة العلوم الإجتماعية، بما في ذلك المدارس الوضعية، والتفسيرية، والنقدية، وما بعد الحداثوية.
تعتبر المدرسة الوضعية وجهة نظر فلسفية نشأت في القرن التاسع عشر، تشدد على أهمية البيانات التجريبية والأساليب العلمية في بحوث العلوم الاجتماعية. ويقول أصحاب هذه المدرسة، إنه يمكن دراسة الواقع الاجتماعي بشكل موضوعي وكمي، وبأن العلماء الاجتماعيون يمكنهم تطوير مجموعة من القوانين المشابهة لتلك الموجودة في العلوم الطبيعية. ومع ذلك، تم توجيه النقد بسبب الحدود الموجودة في المنهج التجريبي، خاصة في ما يتعلق بعمق وتعقيد الظواهر الاجتماعية، التي قد لا يتم التقاطها بشكل دقيق من خلال البيانات الكمية وحدها.
تتيح المدرسة التفسيرية طريقة بديلة عن الوضعية، حيث تشدد على أهمية التفسير والفهم في التحقيق العلمي الاجتماعي. ويقول علماء التفسيرية الاجتماعية، بأن الواقع الاجتماعي يصاغ كما تصاغ النصوص، وأن معنى الظواهر الاجتماعية، يمكن فهمها فقط من خلال فهم السياق، الذي تحدث فيه. تركز هذه المدرسة على فرق مناهج البحث العلمي بين العلوم الاجتماعية والعلوم الطبيعة.إذا كانت الموضوعية- بمفهوم خلو الذهن من الإسقاطات والافتراضات المسبقة- ممكنة ومطلوبة في دراسة الطبيعة، فليس هذا هو الحال بالنسبة لدراسة المجتمع، إذ لا يمكن فصل الباحث عن موضوع البحث، حسب رأي هذه المدرسة.
تطرح المدرسة النقدية تحديا آخر للوضعية والتفسيرية، حيث تشدد على التركيز على علاقات السلطة والهياكل الاجتماعية التي ترجّح التمييز والقهر. يؤكد أصحاب النظرية النقدية على ضرورة ربط التحقيق العلمي الإجتماعي بالتزامه بالعدل الاجتماعي والرغبة في فهم العلاقة بين السلطة والامتياز في المجتمع. توجه هذه النظرية نقداً لاذعاً للعلوم الاجتماعية السائدة، وتعتبرها محافظة وتتهمها بتبرير الوضع القائم عبر خلق أيديولوجيات يحرف النشاط العلمي عن مساره الصحيح. لا يؤمن النقديون بالموضوعية- كما يفهمها الوضعيون- ويركزون على دور الباحث في بث الوعي و بعثه بين شرائح المجتمع.
تطرح مابعد الحداثوية، شكًّا في التفسيرات التقليدية للأبحاث الاجتماعية، حيث تشير إلى أن كل معرفة هي بطبيعتها موضعية وتشكّلت بالسياق التاريخي والثقافي. يرى أصحاب هذه المدرسة أنه ليست هناك حقيقة موضوعية واحدة، بل هناك تعدد وجهات النظر تنشأ عن تجارب اجتماعية وثقافية متنوعة. تؤمن ما بعد الحداثوية بتعدد مصادر المعرفة البشرية وترفض تقييم هذه المعارف، حسب المعايير العلمية السائدة. تركز العلوم الإجتماعية المبنية على هذه النظرة، على تجاوز مفاهيم الحداثة ومناهجها البحثية، ولا تعير أي اهتمام للمصطلحات الشمولية والقراءات الرسمية للواقع الاجتماعي.
باختصار، فإن فلسفة العلوم الإجتماعية، تلعب دورًا حيويًا في صياغة فهمنا للمجتمع والسلوك البشري. وتعطي وسيلة لتقييم الافتراضات الأساسية والإطارات النظرية التي توجه التحقيق العلمي الاجتماعي. وعلى الرغم من استمرار النقاشات داخل فلسفة العلوم الاجتماعية، توفر كل من المدارس الأربع المذكورة أعلاه، رؤى ومقاربات مهمة تساعد فهمنا للواقع الاجتماعي.