الماء في {تغريبة القافر}
شوكت غرز الدين
يضعنا العنوان في قلب الرواية مباشرةً، وذلك من خلال التلميح إلى معاناة من اقتفى صوت الماء. أمّا لوحة الغلاف للفنان “حسين المحروس”، فإنها توشوشنا عن الجمال المحليّ المُعبَّر عنه بالصخرة الكتيمة مع مغزليّ الصوف المعلقين عليها بخيط مشدود لا نرى طرفيه، بالإضافة إلى كُبتيّ الصوف المغزولتين على ساعد كلِّ مغزل باللونين الأبيض والأزرق كلوني الماء والسماء، وخيطانهما المتدلية والممتدة. ويطل اسم الكاتب العُماني كدعوة حميميَّة للقراءة عن عُمان وشعبها العريق.
ملخص لا بدّ منه
تبدأ الرواية بغرق امرأة حامل اسمها “مريم” في بئر؛ لشدة الآلام في رأسها والتي لا يخفف من حدّتها سوى الماء. ولكن بعد انتشال الجثة، يلحظ الجمع الغفير حول البئر، حركة في بطن الغريقة، فتقوم عمتها “كاذية” بدور القابلة وتشق البطن لاستخراج الجنين برغم تضارب الآراء واعتراض شيخ بلدتهم، وهي تردد: “يُخرج الحيّ من الميّت”. ثم تتكفل “آسيا” التي فقدت ابنتها الرضيعة منذ يومين بإرضاعه. وهذا الجنين هو “القافر” (من يتتبع صوت الماء ويقتفي أثره بواسطة السمع)، وهذه الرواية عن تغريبته أو معاناته مع الماء لتعكس معاناة شعب بأكمله كما يعكس ماء الغدير الصور. فالرواية تقوم أساسًا على حاسة السمع، وفكرتها تشبه فكرة رواية العطر التي تقوم على حاسة الشم.
وهكذا، تدور الأحداث بين الأفلاج (نظام قديم للري في عُمان)، وتتفاعل الشخصيات حول موضوع الماء، على سطحه تارة وفي عمقه تارة أخرى، ومن ثم، لتسير الرواية عمومًا، على إيقاع خرير الماء أو انقطاعه أو هدير الماء واندعاجه. فعلى مقربة من أصوات الماء وأسرارها، انبثقت “تغريبة القافر”، وطاب لها العيش على ضفاف الماء وفي ظلال سواقيها وأفلاجها أو في أعماقها المظلمة حيث تقبع الأساطير والأوهام التي تغري القارئ ليغوص فيها ويسبح ويتمرى (من مرآة). وكأنَّ الشعب العُماني مثل نرجس يتأمل ذاته في ماء الأفلاج، إلا أنه بخلاف نرجس لم تعجبه صورته فقرّر الابتعاد عنها لا الاندماج فيها كما فعل نرجس في الأسطورة. فمشكلة الإنسان مع الماء قديمة قدم الطوفان. إلّا أنها في رواية “تغريبة القافر” اتسمت بطابع محليّ وهو مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالبيئة العُمانيَّة ومنفتح على العالمي في الوقت نفسه.
ففي بيئة قرويَّة عُمانيَّة كقرى المسفاة والمسيلة والغافتين والرفيعة... وبألفاظ محليَّة مثل الطارش والأفلاج والبيدار (من يوزع الماء على الحقول) والمناجير (بكرة خشبيَّة ضخمة لسحب الماء من البئر وتصدر صوتًا باحتكاك الحبل بالخشب ويجرها ثور أو حمار) ... وبوعي قروي بسيط، يحاكم المختلف وينعته بالجنون أو بالجن، ويعالج بالكي والتعاويذ ضد الحسد وإصابة العين والجنون والسحر... يكبر القافر من دون أن ينال حقه بالاعتراف. وتمرّ عليه خمسة عشر عامًا وكلام أهالي القرية الساخر وعيونهم المرتابة يلاحقانه من محل (فلج) إلى آخر، مرّة كابنِ الغريقة أو ابنٍ للجن، وأخرى كمجنون، وخصوصًا بعد أن لاحظ الأهالي إنصاته لصوت الماء تحت الأرض وإعلانه المتكرر عن وجود الماء في هذه البقعة أو تلك. غير أنه تم الاعتراف به أول مرة كقافر عندما أصاب القحط وندرة الماء المنطقة. فاضطر الأهالي إلى نبش الأفلاج العتيقة والمردومة. وإذ ذاك من غير القافر باستطاعته تحديد مكان الماء بالفلج؟ لا أحد حتى أصحاب الخبرة وكبار السن. ثم اشتغل خمس سنوات في سبر الماء في القرى المجاورة بعد أن ذاع صيته كقافر. وفي قرية المسيلة عثر على حب حياته وتزوج منها، إلّا أنه فقد والده في اليوم التالي وقرّر ألّا يعمل في هذ العمل مجددًا. وبعد أن استقر وزوجته في قرية المسفاة اشترى لها بعض الأغنام وبقرة ولم يشترِ قطعة أرض ليزرعها بالنخيل؛ لأنَّ الأهالي لا يبيعون أرضهم وحسبهم رهنها إلى أن يتوفر لديهم المال فيستردونها. ومرت الأيام وعاد القافر إلى سماع صوت الماء من جديد في أعلى الجبل المجاور لبيته وبدأ بالحفر تحت لسع ألسنة السخرية وتهمتي الجنون والجن. واستمر بعمله من دون جدوى إلى أن أتى أحدهم وطلب منه أن يُنقِّب له عن الماء، متفقًا معه على أن يهبه نصف القرية في حال طلع الماء، وفي حال لم يطلع يتقاضى قرشين ونصف القرش عن كل يوم عمل. وقد حثّه بالقول: لا تستطيع تغيير فساد الناس المنكرين لجميلك ولكنك تستطيع الابتعاد عنهم. فـ”الناس يأكلوا بعضهم بعض فهذي البلاد، لسانهم ما تشبع” حسب الرواية. ولهذا ذهب القافر بدافع المصلحة للمرة الأولى، وليس بدافع الشغف والرغبة في اقتفاء أثر الماء كما اعتاد من قبل. وهناك، اندعجت الماء فجأة وهو وحيد، فحاصرته في الفلج بين الخاتم الصخري الذي يمر منه الماء ولا يستطيع هو المرور منه وبين الفتحة التي تطل على قناة الفلج من الأعلى ولا يستطيع الوصول إليها. وعلق حينها بالظلام والماء والجوع. فلا صوت سوى صوت الماء من حوله. ثم أمضى أكثر من سنة وهو يحاول أن يخرج ويعود إلى زوجته... وكانت زوجته في هذه الأثناء تنتظره بوفاء، وتحتال على أهلها كيلا يزوجوها من جديد، بحجة الانتهاء من غزل الصوف الذي جمعته بعد أن قصّت صوف أغنامها، وصارت تسمي كل خيط باسم فلج من الأفلاج التي قفرها زوجها. وأخيرًا، حطم القافر الخاتم، ولكن الماء المندفع عندئذٍ جرف كل شيء. لقد غدر الفلج بالقافر وجرف كل شيء من آلام وفقر وذكريات وآمال... بما فيها القافر ذاته.
نقد
1 - مشكلة السرد بضمير الغائب
لا نعرف كيف عرف السارد كل هذه الأشياء عن شخصياته ولا عن الأحداث وهو غير مشارك بالحدث ولا متفاعل مع الشخصيات. واضطر إلى إضافة شروحات وتعليقات وإيضاحات بغير محلها وقد أثقلت على القارئ. ومثال ذلك الشرح المطول عن الطارش وكيف كان في قرية أخرى لجلب بذور البطيخ... ص8 وهذا كله غير موظف في الرواية. والشرح عن الشايب وحدة بصره مع أنه لم يتعرف إن كان الغارق رجلاً أو امرأة... ص9. وورود جمل نافلة كجملة “الجبال تردد صدى صوت طبل ضخم” من دون مناسبة ص7. مع العلم أنَّ إحدى الشخصيات الثانويَّة ظلت تدق على الطبل إلى أن اختفت ولكن السرد عنها يأتي لاحقًا وغير مرتبط بترديد الجبال المحيطة بالبئر لصدى الطبل في لحظة الغرق تلك. ولنأخذ مثالًا عن تدخل السارد العليم: “لكن الموت لا تمنعه الطلاسم عندما يجيء، فلا الاحتراز ولا الطب يقيان منه، ولا الأسماء الشائنة تبعده عن ضحيته” ص54. وأخذت بعض الشخصيات حيزًا كبيرًا ولكنها رغم هذا لم يتم توظيفها جيدًا في الرواية ومثال ذلك شخصيَّة آسيا المرضعة التي لم نعرف مصيرها مع زوجها الملاق. والكثير من الشخصيات الثانويَّة ظهرت في بداية الرواية من دون داعٍ كالشايب والطارش وخالة مريم... ومع أنَّ البداية كانت بالغريقة وشق بطنها لاستخراج القافر وهذه صورة مبهرة ومائيَّة غير أنها لم ترتبط بالنهاية ارتباطًا عضويًا.
2 - تناقض في الحبكة
الجملة الافتتاحيَّة هي صوت يصيح “غريقة.. غريقة..”. ونحن القراء نعرف الجنس ولا نعرف الهويَّة بالضبط. فكيف عرف الشايب “حميد بو عيون” أنَّ الغريق في البئر هو امرأة؟ ثم طلب من الطارش “حمدان بن عاشور” أن يطرش الخبر في القرية، مع أنه “لم يستطع معرفة هويَّة الغريق بسبب عمق البئر وعتمتها” حسب ما ورد في الرواية على لسان السارد ص9. ثم يؤكد السارد أنَّ في القعر شخصاً، “شخص لا يتمكن أحد من تبين ملامحه ولا جنسه” ص10. مع العلم أنَّ السارد جهد في تأسيس حدة البصر عند الشايب ليبرر تعرفه على جنس المرأة. كما أنَّ الأسئلة التي يتساءلها الناس حول البئر تفيد السؤال عن رجل لا عن امرأة ص10، على الرغم من أنَّ الطارش كان يصيح غريقة.
وردت جملة تصف قدرة القافر على تحديد النجوم بالسماء: “تعلمها طفلًا من أبيه وأمه، وبها تفوق على أقرانه في القرية” ص223. والسؤال هنا كيف تعلمها من أمه وقد وُلد بعد موتها؟ وإن كان المقصود بأمه “كاذية” التي ربته فيجب الإشارة إلى أمه الثانية التي لم تلده ولكنها ربته.
لم يراع السارد الحبال المتدلية من الفتحات المطلة على قناة الفلج. فحين حوصر القافر بالفلج، “حدق في فوهة الفرضة باحثًا عن طريقة لصعودها” ص198، ولكن السارد العليم نسي أنَّ ثمة حبالاً متدلية من الفرضة لصعود العاملين من الفلج ونزولهم إليه. فالقافر محاصر بين الخاتم الذي يخرج منه الماء ولا يتسع لمرور جسمه وبين الفرضة أو الفتحة الثانية والعشرين، ولكنه اكتفى بالبحث عن مطرقته وإزميله لتوسيع الخاتم ولم يستخدم الحبال للخروج من الفلج.
في الحصار أيضًا لم يراع السارد هزال الجسم. فالحصار دام أكثر من سنة مع انعدام الطعام تقريبًا، إلّا من بعض أسماك وهوام وعناكب، ألم يهزل جسم القافر وينحف ليستطيع العبور من الخاتم؟ بلى بالطبع ولكن السارد أغفل هذه المسألة.
3 - قيمة الوفاء الأخلاقية
تجسّدت قيمة الوفاء في جميع الشخصيات الرئيسة. فبالنسبة للوفاء للزوج تضرب نصرا زوجة القافر المثل الأعلى في الوفاء لزوجها بعد غيابه، وهو وفاء يماثل وفاء بينلوبي لأدوسيوس في أسطورة الأوديسة، وسرّ التماثل هو استخدام المغزل لغزل الصوف وتقديمه كحجة أمام أهلها لتأجيل الزواج من غير زوجها. والقافر كان وفيًا لحبه منذ الصغر ولما التقى نصرا حب حياته تزوجها وظل يحبها على الرغم من علاقتهما العادية.
وكذلك نجد آسيا مرضعة القافر بوفائها لزوجها الملاق رغم هجرانه، وعندما وصلها خبر مرضه ارتحلت إليه وظلت معه حتى تعافى، بينما هو لم يتذكرها إلا عندما مرض ولا نعلم عن وفائه في غيبته الطويلة.
وأيضًا وفاء مريم الغريقة لزوجها عبد الله بن جميل قبل غرقها، وقد قابلها زوجها بالوفاء حتى بعد غرقها، فقد مات ولم يتزوج عليها أو حتى يفكر بالزواج من سواها.
أمّا الوفاء للحبيب والحبيبة فجسدته كاذية القابلة والمربية للقافر لحبيب طفولتها الوعري، كما جسد الوعري الوفاء لحبيبته كاذية حتى بعد مماتها وملازمته لقبرها. وتجدر الإشارة إلى أنَّ هذه الشخصيات تكره وتحتقر القيل والقال واغتياب الناس وعدم تقدير الجميل المتفشي في القرية.
4 - صور الماء المحليَّة عند الشخصيات
للماء صور كونيَّة. إنه أصل الأشياء عند طاليس. وصيرورة أو تغير عند هيراقليط. وهو مرآة عند نرجس قادته إلى الغرق بالنرجسيَّة. وموت عند هاملت/ شكسبير عندما غرقت أوفيليا. وفي تغريبة القافر ثمة صور محليَّة للماء ولكنها متعالقة مع الصور الكونيَّة ما عدا صورة التغير.
عند مريم: “تصحو ممسكةً برأسها الثقيل وكأنه حصاة كبيرة يكاد الماء بداخله ينفجر” ص23. “الغريقة تشوف كلتني عيونها” ص11. الماء كدواء عند مريم فقد لاحظتْ أنَّ الصداع يذهب كلما أدخلت رأسها في عمق الحوض أو الدلو أو البئر أو تحت شلال الفلج. صوت يناديها من بئر عميقة لا قرار لها تهبط بالحبل إلى قعر البئر. الحلم يدعوها إلى الغرق والراحة من صداعها ص25 وما بعدها.
عند كاذية: “غسلت المولود بالماء ذاته الذي غسلت به جسد والدته المتوفاة”.
عند الملاق بقوله لآسيا: “كل حد يسقيه الله فهالدنيا من روح إنسان ثاني، كل حد عطشان الين يلقى الماه”. ويضيف: “أنتِ عطشي وأنت لماي” ص33. “تشبث (الملاق) بصورة زوجته كتشبث الغريق بحافة متهدمة من الفلج” ص63.
آسيا: “إن مطرًا آخر من الحب هطل في قلب آسيا على ذلك الرضيع”. “الصمت يخيم لولا ذلك الحوار الطويل الذي لا يخفت للمياه المتدفقة”. حوض تتراقص في قعره أسماك الصد الصغيرة. وتخط على صفحته حشرات دائريَّة الشكل خطوطًا تشبه كتابة ملحمة طويلة رأت انعكاس وجهها المتورم وغسلته وهي تتشهد مرة بعد مرة ثم ركنت لصوت الوادي العميق. وسال حليبها ينبوعًا بين شفتيه. “بكت بحرقة، كفلج نشيط رفع الصوار عن قنواته، فسال بلا رادع” ص49. الماء لرد العين: وزارت عيون الماء حيث تُرمى قطع الحلوى حول المنبع وهي تقول: يا عين زولي...
أما عند القافر فإنَّ صوت الماء تحت الأرض هو من اقتاد تغريبة القافر، في حين أنَّ صوت كلبسو الفاتن والساحر اقتاد أودسيوس إلى المجهول في الأوديسة.
خاتمة
الشخصيات لا تتغير كما يتغير الماء. وبخلاف مقولة هيراقليط فإنها تسبح في ماء النهر مرتين، ولا تتخذ شكل الإناء الموجودة فيه، بل تظل كتيمة وعصيَّة على التحول كصخر البازلت في الأفلاج. وعلى الرغم من صلابتها إلّا أنَّ الماء يخترقها في النهاية غصبًا عنها. وما يتغير لحظيًا فحسب هو ردة فعل الناس على شخصيَّة القافر: من السخرية والتهكم إلى الاحترام والمهابة لتعود إلى السخرية والتهكم من جديد. فالرواية عن الماء ولكن الشخصيات غير مائية. صحيح أنه تعتريها مشاعر مائيَّة أحيانًا غير أنها من دون تغيّر.
فالمحليّ كونيّ والكونيّ محليّ. ولهذا نجد الماء كأصل للأشياء والماء كمرآة والماء كموت وكحياة وكطهارة وعمق وسطح وظلمة وانعكاس... مما يجعلنا نتذوق التناص الخفي مع رواية العطر ووفاء بينلوبي وصورة الموت عند شكسبير...
وأخيرًا لو أنَّ الرواية تجاوزت ثغرات السرد والحبكة والشخصيات لانفتحت محليتها، التي تميزها، أكثر بكثير، على العالميَّة والكونيَّة.