ثعالب وقنافذ
ثقافة
2019/05/04
+A
-A
عبدالزهرة زكي
في ثقافتنا، وفي ثقافات أخرى، من الممكن مصادفة الكثير مما يقارب تعبير الجاحظ عن المعاني، بوصفها مادة أساسية للتأليف الشعري، كان الجاحظ يقول: المعاني مطروحة في الطريق. وكان الجاحظ يريد بتعبيره تأكيد شيوع المعاني، بما يجعلها مكررة، بينما خصوصية صياغتها شعراً هي الأهم، الخصوصية هي ما تجعل (المعنى) الشعري ملكاً لصائغه شعراً.
الكاتب الأمريكي روبرت مِكي يقول ما يقارب هذا إنما بتنويع آخر:” “إن ظهور فكرة يشبه صفير لحن على (إيقاع) خطوات في قاعة كارنيجي. الجانب الأصعب هو الحصول على الأوركسترا لتقديم ذلك الإيقاع”، أي لجعله فناً وليس مجرد صفير مألوف وشائع. وروبرت مِكي هو مؤلف كتاب (دليل كتّاب السيناريوهات)، التسمية الشهيرة، وربما التسويقية، لكتابه (القصة) الذي تُرجم إلى العربية وصدر عن المشروع القومي للترجمة.
هذا الجانب الأصعب، وهذه الأوركسترا، اللذان ينشدهما مِكي هما الكيفية التي يمكن أن يكون بها مجرد صفير في ممر بقاعة كبيرة عملاً موسيقياً مقنعاً بفنيته. ومعاني الجاحظ هي أيضاً، لا تكون فناً، شعرياً أو نثرياً، ما لم تكن بكيفية يمكن معها القبول بها كفن.
لم يسعَ الجاحظ إلى تعليم هذه الكيفية، لم يسعَ إلى تعليم الراغبين بأن يكونوا شعراء وكتاباً وتلقينهم مبادئ وطرقاً تجعل منهم، كما يحلمون، شعراء وكتاباً، لكن روبرت مِكي تورّط بهذا (تقول ويكبيديا الإنكليزي: اكتسب شهرة سيئة) عبر ندوات شهيرة له نظّمها في كثير من المدن والبلدان، وكانت عن كيفية كتابة قصة، حيث يقدِّم فيها محاضرات عن كيفية كتابة القصة.
في كتاب صدر مؤخراً في لندن مؤخراً للكاتب المسرحي البريطاني ستيفن جيفريس (توفي العام الماضي)، وهو بعنوان (الكتابة المسرحية)، ومذيَّل بعنوان آخر شارح (البنية، الشخصية، كيف وماذا تكتب) تجري الإشارة إلى تعبير روبرت مِكي، لكن جيفريس يلاحظ أنه:” في الوقت الذي يسأل فيه أشخاصٌ من خارج المسرح الممثلين: “كيف تتذكر الكلمات؟”، فإن الكاتب يُسأل” من أين تأتي أفكارك؟”، ويقدّم جيفري جواباً يراه (صادقاً، وهو الجزء السهل) من مسألة الكتابة، ليقول:” الحصول على أفكار للتمثيل هو أمر يحدث يومياً؛ قراءة إحدى الصحف، والاستماع إلى الحكايات الخاصة بعطلة صديق، والاطلاع على صورة غريبة، على سبيل المثال، شخصين وكيس من الحطب - أي شيء يمكن أن يفجرك”. حسب جيفريس فإن معاني الكتابة هي أيضا مطروحة في الطريق، إنها” الجانب السهل” في عملية الكتابة، الجانب الآخر الذي يجعل من معاني الطريق، ومن معاني الخبر الصحفي، وحكايات عطلة الصديق، عملاً فنياً، هو الجانب المعقد، هو الكيفية التي تكون بها هذه المعاني فناً شعرياً أو نثرياً، الأوركسترا التي تجعل من مجرد صفير عابر في ممر طويل عملاً موسيقياً ناجحاً.
في العادة من الممكن أن يتحدّث كبارُ الكتاب وصغارهم عن ظروف كتابتهم؛ عن تقاليدهم الخاصة والمشتركة في ما يمكن تسميته بـ (طقوس) الكتابة وتقاليدها، لكن من غير المتوقَّع أن يفصّل كاتبٌ ما في قانون قياسي أو متغيّر للكتابة، في الكيفية التي تجري بها عملية الكتابة. يستطيع أيُّ كاتب الحديث عن (كيف هو يكتب)، بأية ظروف وتقاليد، فيما يتعذّر عليه الشرح جوانية الكتابة، في (كيف تكون عملية الكتابة). الكتابة مثل الماء، إذ ظلت الحياة، وبضمنها البشرية، عصوراً ترتوي وتتكون منه من دون أن تعرف تركيبه، وحتى حين عرفنا نحن في عصر متأخر تركيب الماء فإن الماء ظل بالنسبة لنا هو الماء، غير عابئين كثيراً بما يُعنى به المختصون من تركيب الماء من ذرتي هيدروجين مقابل ذرة أوكسجين وفي شروط خاصة للتفاعل، بينما تقدّم الكيمياء العضوية براهين أخرى أكثر تعقيداً وأشد تمثيلاً ببحثها في المركبات ذات الصلة بالحياة وكائناتها الحية. الكتابة هي أيضاً كائن حي بنسب متوازنة من عناصر مختلفة تتركب لتتشكل منها النصوص (التجسدات الحيّة للكتابة) وأيضاً في ظروف تفاعل خاصة. لقد كان بريزليوس الذي يمكن عدّه مؤسس الكيمياء العضوية يؤكد على أن” المواد العضوية هي التي تتكون داخل الكائنات الحية، ولا يمكن تحضيرها في المختبر”. الكتابة تتكون بظروف خاصة في أعماق مؤلفيها ولا يمكن تهيئة هذه الظروف في أي مختبر للكتابة، وما لا يمكن تهيئته قد تمكن معرفته لكن لا يمكن شرحه.
يمكن معرفة أن الكتّاب، مثلاً، ينقسمون ما بين قنافذ وثعالب. هذا ما يستعيره الكاتب البريطاني المعاصر ستيفن جيفريسمن شاعر يوناني قديم، هو أرشيلوشوس الذي عاش وتوفي قبل الميلاد بأكثر من خمس مئة عام في جزيرة باروس، ويحتفى به لاستخدامه المبتكر والمتنوع للأوزان الشعرية، كما يعدّ أول شاعر يوناني ينصرف اهتمامه بالكامل تقريباً لعواطفه وتجاربه الشخصية.
بموجب ذلك الانقسام واستعاراته، فإن الثعلب الذي يعرف كثيراً من الأشياء والحِيل عبر التجارب يكون منفتحاً على أفق أوسع فتتعدد موضوعاته وأغراضه وحتى أساليبه بينما معرفة القنفذ المختبئ تتركز باهتمامه بأمر واحد مهم.
تطبيقات جيفري، بموجب تخصصه، تتقيد بتجارب كتّاب المسرح، فيشخّص أن سوفوكلس ومولير وبرخت، مثلاً، وبما خلفوا من نتاج، هم أقرب إلى الثعالب بينما يرى أن اسخيلوس وبن جونسون وأبسن وتشيخوف وتنيسي وليامز وصاموئيل بيكيت أقرب إلى حال القنافذ.
يرى جيفري أنه يمكن للثعلب” أن يكتب عن أي موضوع ولكن قد لا يكون لديه أي شيء يقوله حول هذا الموضوع”. وقد”يفشل في إصدار أي بيان متسق حول العالم”. الثعلب لديه مشكلة الاحتمالات التي لا نهاية لها، فهويستطيع الكتابة دائمًا بطريقة مسلية. هؤلاء (الثعالب) تتنوع موضوعاتهم وأهدافهم وتتغير، بخلاف القنافذ” الذين قد يبحثون لسنوات عن موضوعهم، وإذا ما عثروا عليه، فسوف يكتبون شيئاً استثنائياً” حول هذا الموضوع.
قد تتنوع وتغتني بالتنوع كتابات الكتّاب الثعالب، لكنهم معرضون لخطر المرور السطحي والعابر بموضوعاتهم، بينما الطبيعة المتحسبة ومن ثم العميقة لمنتجات القنافذ قد تجعلهم يتعرضون لخطر كتابة المسرحية نفسها مراراًوتكراراً.
استعارة المسرحي المعاصر جيفري لتعبير الشاعر القديم أرشيلوشوس وتقييده بالمثال المسرحي يمكن معه تخطّي هذا التقييد وتوسعته طبعاً وتعميمه على مجالات كتابية وإبداعية مختلفة؛ من الشعر والرواية حتى الرسم والموسيقى.
يمكن أيضاً الوقوف على كتّاب كان الواحد منهم ثعلباً من حيث غزارته وتنوعه ولامبالاته وهو يغيّر فيرؤاه وكتابته إنما يمكن لهذا أيضاً أن يكون في الوقت نفسه قنفذ وذلك بعمق وتركيز ما يكتب.. إن واحداً من فصول كتاب ستيفن جيفريس (الكتابة المسرحية) حررته ونشرته (غارديان) اللندنية مؤخراً، كان بعنوان (إذا كنا جميعاً قنافذ وثعالب، فماذا كان شكسبير؟)، وكان شكسبير، بالنسبة لجيفري، مثالاً على الكاتب القنفذ والثعلب في آن.