د. جواد الزيدي
إن الحديث عن علاقة الشعر بالرسم قديمٌ جداً، إذ جرى التطرّق والبحث في النصوص الأدبيّة أزاء علاقة الصورة الشعرية بالصورة المرسومة، بوصفهما صورتين ذهنيتين بامتياز يتمُّ استجلابهما من العقل بواسطة سلطة التخيّل. وقد أورد (فرانكلين) في كتابه (الشعر والرسم) مثابات مهمة لهذه العلاقة، والذي ترجمته الى العربية (مي مظفر) وأصبح من المصادر المهمة التي تبحث في هذه المنطقة الجماليّة. وهناك مصادر كثيرة تنضوي تحت هذا الاتجاه.
وفي التجربة الشعريّة العراقيّة هناك الكثير أيضاً بما يكرّس هذه العلاقة، إذ أصدر الشاعر (جواد الحطاب) ديوانه الموسوم (بروفايل أمام نصب الحريَّة) والذي يُحاكي فيه مفردات نصب الحريَّة، فضلا عن تجربة الشاعر (رعد عزيز كريم) الذي ترجم صدى قصائد الرسام (أياد الزبيدي) في تجربة
أخرى.
بيدَ أن تجربة الشاعر (حسام السراي) تتخذ مساراً مختلفاً عن هذه التجارب، أو التجارب السابقة التي تنفتح فيها الصورة على مفهومها الكوني الذي يصلح للمقاربة الفلسفيّة بعيداً عن محددات البنية الزمكانيّة، إذ تختص صورة (السراي) الشعريّة في الراهن العراقي، ومحمولات الأسى والقسوة الكبيرة التي تمَّ تسليطها على الذات العراقيّة، فهو يكتب مدوّنته الشعريّة التي ستكون وثيقة مستقبليّة تسجل أحداث الجمر والموت.
إذ يبدأ من العتبة الأولى (العنوان) (لا إليوت آخر لمدينة تفاوض الدخان) بما يذكرنا بـ (المدينة اليباب) أو الخراب في ترجمات أخرى، والتي ستنفتح الى عتبات ثانويّة، مثل (بغداد، الناصرية، الموصل، سنجار، تلعفر، الحسكة) وعتبات ثانويّة أخرى مثل (ساحة التحرير، جسر الزيتون، أيمن الموصل، أيسر الموصل) وغيرها، تلك التي تحمل حضورها داخل الحدث
العراقي.
وأجد أن مبدأ المصاحبة الذي أوجده (هيدجر) ذات مرة يتوافر بشكل كبير في مدوّنة السراي، من خلال أمكنته التي تمكث داخل ذاته، أو صورة الفتى التي تتحول عبر حركيّة الزمن، ومن خلال مبدأ الاستعارة الصوريّة فإن هذه الصورة هي ذاتها صورة الشاعر أو شخوص تعرف عليهم جيداً، وينقل من خلال هذه الصورة أحداثه التي تتحول من فضائها اليومي التداولي الى فضاء الصورة الشعريّة المتعالية حين تتحول الى
قصيدة.
واستكمال المعنى في الصورة المرافقة والتي ينعتها بـ (ألبوم الطوابع) (طابع رقم 1، 2، 3، 4، 5، 6) الى آخره.
هذا الطابع الذي يشبه صورة ورقة الدولار، إشارة الى تحكمها بصناعة الحدث العراقي، وفاعلية تجار الحروب الذين أوصلوا الوطن لما آلت اليه هذه النهايات الحزينة.
فالطوابع تحمل (نبوءات، وأحلاماً، وجماجم، فضلاً عن الناجين من الحرب) كل هذه الصور تمرّ أمام الفتى وتمكث داخل وعيه.
يبدأ السراي منذ قصيدة (تأويل) مقاربته بين الصورة الواقعيّة التي تعيشها مدن الشاعر ومدننا نحن، وبين صورة الحلم المغادرة لجدليّة الواقع والقابعة في الذاكرة التي تتجسّد بصورة (طالب المدرسة وهو يحمل حقيبته) وصورة الواقع نفسه.
ويستمر بعرض صوره طبقاً لحركيّة الزمن وواقعيّة الحدث الناشئ أزاء تلك الحركيّة، ليصل الى حقيقة مفادها أن (المنازل ضاقت بأبنائها) ليصبحوا لاجئين (من تلعفر أو من الحسكة) يحكمهم المصير ذاته على الرغم من الحدود الفاصلة والبنية المكانيّة
المختلفة.
فالوطن تقسّمت ثرواته على أساس الطوائف والقوميات، وهو أسوأ ما يوصف به وطن ما (فالنفط، والكهرباء، والمال) تتقاسمها الطوائف والأعراق، وبهذا تتقاسم ممكنات الحياة العراقية وايقاف ديمومتها.
وهنا يحاول الشاعر أن يصطفي صورته المرسومة كمعادل موضوعي أمام الصورة الشعريّة التي يجسّدها الفتى وهو يحلم بالأمن ورغيف الخبر، بما يذكرنا بصورة (محمود درويش) (عندما أنظر تدويرة القمر أراه رغيف خبز) أو (كانت الأرض رغيفاً) يمثلها الفتى الذي ينظر الى المستقبل من أمام صورة القمر المدور الذي يظهر خلفه بحمرته وهي تشير الى مساءات الأحزان وقد لفت أيامه الفائتة.
وعلى الرغم من صورة الأسى والموت التي رسمتها مخيلة السراي في قصائده، إلا أن فسحة الأمل ما زالت قائمة أيضاً أمام عتمة الأشياء وانهيارات
الواقع.
إذ يقول (ونحن نتحسس أصابعنا، أعيننا، أحاديثنا العابثة، اشتقنا لمعنى أن نكون أحياء) وها هي نبوءته تثبت صدقها من خلال حيوية شعب دافع عن وجوده وسيرورته أمام المشاريع الظلاميّة والارادة الخارجيّة والنزعة الفوقيّة التي تعاملت بها أنظمة الحكم المتعاقبة، ليكتب ملحمته الخاصة في الصمود والتغيير النسبي وصولا الى صورة ما يحلم به أي شعب يريد أن يمتلك حريته ويدير نفسه ويتحكم بموارده.