علي لفتة سعيد
لم تكن الزيارة الأربعينيَّة كما هي الآن حتى قبل بدايات القرن الماضي، فهي ممارسة مستحدثة كما يقول الكثير من الباحثين والمؤرخين وحتى رجال الدين المعتبرين كالشيخ المفيد والشيخ الطوسي والعلامة الحلي والكفعمي الذين اهتموا كثيراً بهذا الجانب.
والسؤال الذي يبرز هنا، إذا كانت كذلك لماذا تفاعلت وفُعلت وأصبحت شعيرة مهمة يمارسها الأغلب الأعم من الناس؟
إنَّ الإجابة على هذا السؤال تحتاج منَّا الى استخدام العقلانيَّة في الطرح وإنْ كانت عقلانيَّة سياسيَّة بحثيَّة. وهي أنَّ الشعوب دائماً تبحث عن أيّة مناسبة من أجل ممارسة فعالية سواء كانت سياسية أو دينيَّة أو اجتماعيَّة وهي بذلك تختلق أي موعدٍ معروف سواء كان تاريخياً قديماً وحتى أسطورياً مثل الاحتفالات بالمواليد أو ممات الشخصيات وذكراهم. ولهذا فإنَّ الواقع السياسي في العراق في القرن الماضي كان سوداوياً وكان واقعاً تحت الاحتلال سواء الاحتلال العثماني وما جاء بعده الاحتلال الانكليزي، ولذا كانت أحد أهم مبّررات وجود الزيارة التي تقول المصادر إنه تقليدٌ حديثُ العهد بدأ في أواخر الستينيات فقد كانت بضعة مجاميع تتوجه إلى مدينة كربلاء قادمة من النجف سائرة على الأقدام من أجل تأدية زيارة أربعينية الإمام الحسين (ع) واستمرت حتى عام 1975م وهو تاريخ منع المسير من قبل السلطة الحاكمة. بمعنى أنَّ المعارضة السياسية سواء من أحزاب مدنية أو دينية تحركت في هذه المناسبات من أجل ممارسة دور التثوير والوعي الذي يؤطّر ضمن المعارضة للواقع، فكانت الزيارة التي بدأت دينيَّة لتتحوّل الى مواجهة مع السلطة والتعبير عن السخط الشعبي وهو الأمر الذي أدى حتى الى ظهور مواكب حسينية لها ردّات سياسيَّة بالضدّ من السلطة منذ وجودها الى الحاضر.
إنَّ الأربعينية التي بدأت كطقسٍ حزني تلبيةً لدعوات الإيثار وحبّ الإمام الحسين (ع) والتعبير عن الولاء الذي يبدأ مع مطلع كل شهر محرم الحرام حتى العاشر منه ذكرى الاستشهاد والتي تقام طقوسه في المدن ذاتها لكن الأربعينية تحوّلت الى طقسٍ حزني عامٍ باعتبار أن أهل البيت رجعوا سيراً على الأقدام من الشام وهو الأمر الذي مكنّ الجهات السياسيَّة والدينيَّة المعارضة من تحويلها الى طقسٍ تعبوي رغم أنَّ الناس على فطرتهم ونياتهم كانوا يرحبون بالزوار، وهنا كنت الانطلاقة الأولى لتبيان الكرم العراقي على أساس التضحية لكل شيء لإعلان الوفاء للإمام الحسين (ع)، وهنا تبدو الأربعينيَّة التي قام النظام السابق بمعنها لتجد لها انفتاحاً كبيراً ما بعد العام 2003 كواحدة من أهم الممارسات الاحتفاليَّة والطقسيَّة لدى المسلمين لتتحوّل الى ممارسةٍ ليست عراقيَّة بل الى ممارسة دول الجوار ومن ثم الى عالميَّة لأنها تحولت من كونها زيارة سياسيَّة الى زيارة طقسيَّة ولائيَّة لتتحول ايضاً الحالة الكرميَّة للعراقي الى التضحية بالمال بهدف إكرام الضيف لتكون الأربعينيَّة واحدة من أوسع الزيارات في العالم وتدخل ربما الى موسوعة غينيس للأرقام القياسيَّة من ناحية عدد الزوار ومن ناحية أكبر موائد الطعام في العالم.
إنَّ الأربعينية لم تعد زيارة ولاء كما في مطلعها ولم تعد زيارة المواجهة من الأنظمة السياسيَّة كما في الأعوام التي سبقت عام 2003 بل تحوّلت الى كل هذه الجهات والفعاليات لأنها تنطلق من عنصر المواجهة مع الظلم، فهي ظلّت محافظة على طقسها الولائي لأهل البيت مثلما ظلّت وفية للمناهضة والوقوف ضد الاحتلال والفساد وما يؤذي العراقيين، مثلما تحوّلت الى عمليَّة كرمٍ كبيرٍ يشتهر فيه العراقي بالاساس وهي بذلك - أي الزيارة - تعدُّ من الفعاليات الجماهيريَّة الشعبيَّة التي لا تتدخل فيها الإدارات الحكوميَّة إلا بالإشراف؛ لأنَّ الذي يسيرها ويخدمها ويقوم على أدائها وإنجاحها الطقسي هم الأهالي الذين انتظموا من خلال المواكب من دون نسيان الدولة ومؤسساتها في توفير الحماية والأمن للزوار، فضلاً عن الخدمات الصحيَّة لأنها ليس من مهام المواكب والزوار.