الكُلّيّاتُ الطبّيَّة الهدف الاول للمتفوقين

ريبورتاج 2023/09/10
...

   رحيم رزاق الجبوري

تستفسرُ إحدى النساء اللواتي، تحصلت ابنتها على معدل (98.96)، عن إمكانيّة قبولها في المجموعة الطبّية، لهذا العام؟ لتصطدم بصعوبة نيلها مقعدا في ظل ارتفاع المعدلات، لأنها لمْ تتعد حاجز الـ"100"، بعد الإضافة؟! وراحت تضرب كفا بكف، وكأن ابنتها راسبة؟ وأخرى تضعُ علامات تعجّبٍ عمن يمتلك معدلا "99.00"، ولا يرى تلك الجامعات؛ إلا من خلال التعليم الموازي، أو الأهليّ؟ الذي يتطلب دفع أموال طائلة؟ وتلك التي تمتلك معدلا (99.75) وتشعرُ بأن فرصتها ضعيفة، وتبتغي الذهاب إلى كليّات المحافظات الطبّية؛ علها تجد مكانا لها! وذاك يتحسرُ، ويشعرُ بضياع حلمه، واستحالة دخوله لعالم الطبّ، بسبب هذه المعادلة الحسابيّة المعقدة.

وغيرهم الكثير ممّن نسمع ونعيش قصصهم، الّتي تبرزُ في كلِّ عامٍ، ووقت إعلان النتائج. فنتفاجأُ بطالبٍ يفكّرُ بالانتحار، وآخر أُصيب بمرضٍ نفسيّ، وطالبة تذرفُ بدل الدموع دمًا. كلّ هذه الحكايات، جاءتْ، نتيجة، لعقليّة وثقافة المجتمع المتجذّرة منذ سنين طويلة؟ وزُرِعَتْ في نفسيّة الطالب منذ الصغر. فمنذ بواكير التعليم الابتدائيّ؛ تنهالُ عليه التبريكات، وتُغرزُ فيه الجملة المُعتادة: (إن شاء الله تصير دكتور)؟ فنَما هذا الهاجس لديه، مرحلة بعد أخرى، وصولًا للمرحلة الإعداديّة، فتجدهُ يهرول للقسم العلميّ دون تردّدٍ؛ بغية نيله مراده. وتذكرُ إحدى التربويّات: إنَّ مقابل كلّ 6 صفوف (علميّة)، يوجد صفّ واحد (أدبيّ)؟! وفي بعض المدارس، اثنان أو ثلاثة؟ وهذه معادلة خطيرة. وقد نوّه، إليها د. محمد جلو، بقوله: "إنَّ ذهاب الأذكياء إلى الكُلّيّات الطبّية؛ ساهم في إطالة عمر الإنسان، بحدود 10 سنوات، كمعدّل. وكان يفترض أنْ يذهب بعض الأذكياء، إلى الاختصاصات الهندسيّة، أو الإنسانيّة؛ لكي تتطوّر تلك الاختصاصات بنفس المعدّل"؟! وتُفصِحُ هذه الظاهرة، عن توجّهٍ محمومٍ نحو العلوم الطبيعيّة، وبالتحديد الطبّية منها؛ لأسبابٍ عديدة، سنتناولها برفقة عددٍ من الباحثين والأكاديميّين. لعلّنا نصل، وإيّاكم إلى تفكيك جذورها. 


حالة إشكاليّة

يتطرّقُ أحمد زهاء الدين (باحث وأكاديميّ وأستاذ بجامعة وييك فورست)، لهامشيّة الاشتغال بالإنسانيّات، والاجتماعيّات، والفنون في الوطن العربيّ؟ قائلًا: "يُعَدُّ تدنّي المكانة والعوض الماديّ لدى المشتغلين العرب بالإنسانيّات، والاجتماعيّات، والفنون، حالةً إشكاليةً؟ وتفسير هذه الحالة، يعود إلى توزيع المهن في الهرم الاجتماعيّ لكلّ بلد". 


تثويرُ المهن

ويضيف: "إنَّ العلوم الإنسانيّة، هي الّتي تجعل الإنسان يتفتَّحُ في إنسانيّته. زيادةً على ما وُجِدَ عليه نفسه عند الميلاد جسدًا مُغتذيًا، ومُتكاثرًا، وفانيًا. وأصبحتْ هذه العلوم، في عصرَي النهضة والتنوير بأوروبا، أساسًا لتثوير مهن الطبابة والهندسة والتجارة. ولا يخفى على أحدٍ أنَّ جامعاتنا العربيّة، فيها عدد من الدارسين للتراث البشريّ والعلميّ، لكنَّ كثيرًا منهم لا يقوى على إمداد العالم بالقوانين والفرضيّات المُبتكرة، فضلًا عن التطبيقات التقنيّة الّتي يمكن أنْ يُنتفَع بها. وتفسيرُ ذلك، هو أنَّ الدُربة على العلوم الطبيعيّة صنعة، وأنَّ تعلُّم الكشف والتطبيق العلميّ صنعة أخرى، تقع الإنسانيّات في صميمها. وأيّ شخص يشكّ في هذا فليبحث: من هو مُخترع الرياضيات التحليليّة، أو التفاضل والتكامل، أو منطق الاستقراء، أو أُسس المنطق الرياضي (أي الخطوة التمهيديّة للحوسبة)؟ والجواب أنَّ الشخصيّات الّتي قامت بهذا الأمر، هي: ديكارت، ولايبنتز، وجون ستيوارت مِل، وبرتراند رسل، وهم جميعًا فلاسفة مبرزون في الإبستمولوجيا (نظريّة المعرفة)".


اختلال الموازين

بينما يذكرُ أ.م.د فارس الحسينيّ (جامعة بابل/ كُلّيّة الآداب- قسم اللّغة العربيّة)، رأيه بهذه الخصوص، قائلًا: "لا شكّ أنَّ المجموعة الطبّية، مرغوبة لدى الأغلبيّة من المجتمع العراقيّ. ولكنْ هذا يخلقُ اختلالًا في توازن المجاميع الأخرى العلميّة، والأدبيّة، وترهّلًا في المجموعة الطبّية، وتخمة عدديّة فيها؟ وبذلك يضعفُ جانب الإبداع، وتوافق الموهبة، والمهنة. وتحدثُ فوضى، لا تُحمَدُ عُقباها في توزيع الوظائف". ويكمل: "إنَّ سبب الإقبال الشديد عليها؛ هو التعيين المركزيّ. إذن فالجانب الاقتصاديّ، هو العامل الأوّل في هذا الشأن. ولو توزّعتِ الوظائف، والتعيينات وفق خطّة عادلة؛ لما حصلتْ هذه المشكلة".

غياب الثقة

أ.م.د.عقيل الريكان (تدريسيّ في الجامعة المستنصريّة)، يؤكّدُ أنَّ ترسّخ فكرة الحصول على تخصّصٍ طبّيٍّ، من قبل الطالب وذويه، نابعة من عدم ثقته في الحصول على وظيفة حكوميّة في حال التخصّص بتخصّصات أخرى؟ فتجدُ أنَّ الطالب يضعُ نصب أعينه التخصّص الطبّي لا غير. فهو يرى أنّه سيحظى بمكانة اجتماعيّة مرموقة وبتعيين مركزيّ، ومردود ماديّ، الّذي سيجنيه حال عمله في القطّاع الخاصّ، بينما التخصّصات الأخرى (خصوصًا الإنسانيّة) منها، لا توفّر له ما ذُكِرَ أعلاه".   


تقصير حكوميّ

وينوّه "بأنَّ الحكومة، مقصّرة، فهي من عزّزتْ هذه الفكرة لدى الطالب وذويه، بإهمالها التخصّصات الإنسانيّة من نسبة التعيينات، وكذلك لمْ توفّرْ فرص عمل في القطاع الخاصّ كونه (غير مفعّل أصلًا)، لذا سنجدُ عزوفًا عن الالتحاق في الفرع الأدبيّ؛ ليس لهذا الجيل فقط، ربّما للأجيال اللاحقة، ولأمدٍ ليس بقريب؟!".


تخلّفٌ فكريّ

تصفُ المهندسة والروائيّة أسماء حسن سلمان، هذه الظاهرة، بـ"التخلّف الفكريّ"؟ إذْ تقول: "بات الحلمُ الأكبر للأسرة العراقيّة، والطالب، هو الدخول للمجموعة الطبّيّة، بسبب الموارد الماليّة المُترتّبة على هذا العمل في القطّاع الخاصّ. وليس كما يتوهّم البعض إنّه لغرض التعيين؟ فكلّنا نعرفُ إنَّ راتب الطبيب المُتعيّن حديثًا لا يتجاوز الـ(600) ألف دينار؟ إضافة إلى احترام المجتمع لهذا الموضوع، ووضع الأطبّاء في خانة الأذكياء والأثرياء؟". وتضيف: "لكنْ من المنصف، ألا نُلقي باللوم على الطالب فقط؛ فالأهل يضغطون بشدّةٍ لتحقيق ذلك، كنوعٍ من الفخر، والتباهي؟ وهذا الأمر يحدث فقط في العراق؟! علمًا إنَّ أغلب الاختصاصات المرغوبة في العالم، هي العمارة، والمحاسبة، والقانون. وهي الأكثر ربحًا من الطبّ؟!".


دوافع نفسيّة

يعزو أستاذ اللّغة الإنگليزيّة علاء أحمد، سعي الأُسر العراقيّة، وراء المجموعات الطبّيَّة، دون غيرها، إلى عدّة أسباب، إذ يقول: "الطموح بالحصول على أعلى المراتب، يعتبرُ حقًّا مشروعًا. لكنَّ هناك دوافع نفسيّة متأصّلة في شخصيّة الفرد العراقي، منها: السمعة، والشهرة، والمباهاة بأبنهم الطبيب، وهذا الجانب يصاحبه نوعٌ من التعالي قليلًا؟ إضافة إلى المادّة، وهي الهدف المُحفِّز للابن، بامتلاكه عيادة طبّيّة، وذياع صيته، وبالتالي جَنيه للأموال. وهذا الاندفاع، يخلو من الهدف الساميّ، والغاية الحقيقيّة الّتي يضطلع بها الطبيب، كعرضِ خدماته مجّانًا للفقراء، والعمل التطوّعي مع المنظّمات الإنسانيّة، لوجه الله (تعالى)، وهذه التفصيلة، لا يتطرّقُ لها الآباء؛ لأبنائهم إلا ما ندر"؟!.


غياب الرصانة

ويختم: "إنَّ البعض، لا يهتمّ بالجامعة، ورصانتها؟ فهو يريد أن يصبحُ طبيبًا، بأيّ شكلٍ من الأشكال. وهذا يُدرج ضمن الوعي اللا شعوريّ، للفرد العراقيّ. بتركه المجالات الإنسانيّة، والمجتمعيّة؛ وهذه مشكلة ثقافيّة، تعود لتجذّر الأنانيّة في شخصيّته. وخير مثال على ذلك، الواقع الطبّيّ الّذي نعيشه، فقد أصبحتْ مهنة الطبّ تجارة مربحة، وانسلخَتْ من جوهرها، ومضمونها الإنسانيّ".


تخبّطٌ وظيفيّ

د. نوال هادي (دكتوراه نقد حديث ومعاصر)، تشيرُ إلى سبب الإقبال الهائل على المجموعة الطبّية؛ جاء كنتيجةٍ طبيعيّةٍ، للتخبّط الوظيفيّ في العراق، لافتة إلى أنَّ: التوظيف المركزيّ لهذه الفئات، جعل منها محطّ التركيز والاهتمام لدى الطلبة؛ لوجود فرص عمل مضمونة فور تخرّجهم، وإذا عمل على تطويرها بالمقارنة مع غالبيّة الوظائف ستكون مهنة الطبّ مصدر الثراء له ولعائلته". وتضيف: "إنَّ العائد الماديّ هو السبب، مع إهمال كبير من الدولة لدعم باقي التخصّصات المهمّة، وعدم خلق فرص عمل موازية لها، مثلما يحصل للتخصّصات الطبّية، إذْ جعلتِ الطلبة يهجرون قبولاتهم المركزيّة في كُلّيّات الهندسة الحكوميّة، للالتحاق بالكُلّيّات الطبّية الأهليّة، مع فداحة المبالغ المدفوعة كأقساطٍ سنويّةٍ، لكنْ على اطمئنان وأمل كبيرين؛ بعودة هذه المبالغ مضاعفة لجيب المُتخرّج نتيجة وظيفته، وعمله الخاصّ في المجال الطبّيّ؟!".


توجّهٌ محموم

يقولُ الباحث والأكاديميّ، سليم سوزة (ماجستير في الدراسات الثقافيّة المتداخلة-جامعة أريزونا): "إنَّ العراق يُخرِّجُ العشرات من المهندسين والأطبّاء والصيادلة؛ لكنّهُ عقيمٌ في إنتاج مُفكّرٍ وباحثٍ في العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة، إلّا ما ندر جدًّا؟! وإنَّ غالبيّة الطلبة الناجحين بمعدّلات عالية؛ يتوجّهون نحو كُلّيّات العلوم الطبيعيّة.. ولا يفكّرُ أحدٌ منهم، أنْ يذهب نحو العلوم الاجتماعيّة، والإنسانيّة، كالاجتماع، والإنثروبولوجيا، والسياسة، والقانون، واللغات، والتاريخ، والفلسفة، والفنون؟". 


الرغبة والطموح

ويسردُ سوزة، قصّة صديقه، الّذي حاز على معدّلٍ عالٍ، وكان الوحيد الّذي وضع كُلّيّة الآداب/ قسم الفلسفة، في الخانة الأولى من الإنسيابيّة، على الرغم من أنَّ معدّله يؤّهله للدخول في إحدى كلّيّات العلوم الطبيعيّة العليا؛ مبرّرًا ذلك بحبّه للفلسفة، ويرى وجوده فيها، لا في العلوم الطبيعيّة! ويختم، سوزة، بالقول: "هذا الوحيد، الّذي أعرفه، قدّمَ ما يَحبّهُ، على ما يُحَبُّ له!".