العزلة عند الشخصيَّة المحوريَّة في روايتين لـ(أمجد توفيق)
رنا صباح خليل
تسعى هذه الدراسة إلى بحث ظاهرة العزلة في الشخصيات التي يعرضها الروائي (أمجد توفيق) في اشتغاله الروائي، وهذه الظاهرة تبدو أكثر وضوحاً في رواية (طفولة جبل) ومخطوطة رواية (الحيوان وأنا) التي ستصدر قريباً، وهي ظاهرة تمثل تياراً مسيطراً علـى معطـيات الروايتين واتجاهاتهـما الفكـريَّة والفنيَّة، لا سيما أنَّ الكاتب استطاع أن يجسِّد هذه الظاهرة المحوريَّة تجسـيداً فنـياً متمـيزاً، كشـف عن طبيعة العلاقة بين عالم الواقع وعالم حلم الشخصيات، وعما تتسم به من تناقض وتعارض وتصادم وشعور بالإحباط والضياع والاغتراب.
حين بدأت قراءتي لمخطوطة رواية (الحيوان وأنا) للروائي أمجد توفيق تبادر في ذهني ما قرأته له قبل سنوات في روايته (طفولة جبل)، إذ إنَّ هناك تواشجاً فكرياً يجمع بينهما على وفق ثيمة مشتركة مفادها الرغبة بالعزلة والانقطاع في عالم الذات، وعند التبصّر بعمق في العملين تتكشف خيوط تشي بالمخادعة، فهو في طفولة جبل يقدّم لنا الشخصيَّة المحوريَّة وهي الشاب (بارق) نازعة للتوحد مع الذات بهدف المعرفة والتأمل واستنشاق هواء الطبيعة بنقائها وسرمديتها واستشعار مجسّات الجمال فيها ومناغاة قوى الديمومة في ربوعها ما بين الجبل والنهر بكلِّ مكوناتهما من زروع وأسماك ونسائم بعد أن شعر بالملل من الحياة الأسريَّة مع والديه طالباً الاكتشاف والتعلم، وفي رواية (الحيوان وأنا) تنزع شخصيَّة الضابط المتقاعد (دانيال) نحو الانعزال في مزرعة بعد أن خذلته حياة المدينة وأتعبته عقب تغيّر الوضع الإنساني والسياسي فيها نحو التردي والنكوص، على الرغم من أنَّ العزلة في هذه الرواية جاءت بأكثر قساوة وبأبعاد أكبر ضراوة، ذلك أنها تحاكي شخصيَّة لها إشكالاتها مع فلسفة الوجود وإكراهات الحياة بمستجداتها بعد تفسخ القيم وعطب المنظومة المجتمعيَّة وفقدانها لدوال الاطمئنان وضياع سلطة الدولة عقب أحداث الاحتلال الأميركي للعراق، إلا أنني أجد أنَّ فكرة الانعزال بما تحمله من تباينات ومحمولات توقعنا في شرك المخادعة الذكيَّة، لكنها مخادعة هدفها يسمو عن الاحتيال على القارئ كونها تطرح قضيَّة تتوارد في أذهان غالبيَّة البشر؛ فمن منا لا يرغب بالابتعاد عن المحيط الذي يدور فيه ويبحث عن نشدان السكينة والصفاء مع النفس على الرغم من أننا كائنات اجتماعيَّة، ولكن ما يُصيبنا من عدم قدرة على التحمّل وما يعترينا من خشونة تحقيق الأمنيات بل استحالة التمنّي في بعض الأحيان، هو ما يدعونا للابتعاد عن واقعنا، فالإنسان كائن آمل ولا يستطيع العيش دون بوارق الأمل وإرهاصاته، إلا أنني أطلقت لفظ المخادعة لغاية مفادها أنَّ الشخصيتين في الروايتين تبحثان عن التوحّد مع النفس باختلاف خياراتهما إلا أنهما في الحقيقة ينجرّان عنوةً نحو الحياة شاءا أم أبيا ذلك، وفي الحالتين يكون مسوغ تواصلهما مع الحيوات الطبيعيَّة سببه المرأة الأنثى صنو الرجل ومفتاح رغائبه وجذوة اتقاده.
فوارق بيّنة بين الفكرتين
لقد قدّمت هاتان الروايتان نموذجين للذات الإنسانيَّة، الذات الأولى (بارق) الذي يراقب العالم من خارج الأنا، ويحرص على الإلمام بتفاصيله من خلال القراءة والتنقل بما يشبه عمل الرحالة رغم أنه لم يتعدّ في رحلته الكوخ في حقل أبيه وهو بذلك أقرب للخلوة والبحث عن التأمل وليس الترحل والاستكشاف، بعد أن أخذ معه في عزلته هذه زوادة فكريَّة ضخمة تتضمّن الكتب (دون كيخوته، ملحمة كلكامش، تاريخ العراق القديم، هكذا تكلم زرادشت، ألف ليلة وليلة، ديوان طرفة بن العبد) والذات الثانية هي (دانيال) الذي كان يسعى إلى الخلو مع النفس بمعانيها المجرّدة، ذلك أنه رجل في السبعين من عمره وهو ليس بحاجة للاستزادة من معارف الحياة وإنما خَبِرَها جيداً واكتوى بنيران صعوباتها وارتأى لنفسه النزوع من عالم البشر وتجريب الحياة بصحبة الحيوانات بل والاعتقاد بأنه غادر صفته البشريَّة رغبة منه بأن يكون حيواناً وأن ينتمي للحيوانات ويشعر بمشاعرها ويتحدث بأحاسيسها ويفهم كلامها ويعرف حاجاتها.
إنَّ فكرة البحث تستدعي ما يقوله ميلان كونديرا: «الرواية هي تأمل في الوجود»(1) ، والتأمل بمفهومه الفلسفي إطلاق للروح الإبداعيَّة نحو مسافات لا مرئيَّة ومغيّبة عن وجودنا الحسي، ولذلك اعتنى أصحاب المذاهب الروحيَّة بالخلوة والتأمل، من أجل تحرير الروح من قيودها. وبهذا المعنى الذي يحدده كونديرا تكون رواية طفولة جبل مساحة غير محدودة رسمتها أدوات السرد، إذ تخلصنا من رتابة العبارات الروائيَّة التي اعتدنا عليها بما تحمله من فلسفة تحاكي الموجود من الماديات من مثل ما خاطب بارق به نفسه حينما قتلت فتاة عشقه بهار “أكان موتها رسالة؟ أم دعوة للانتقام من القبح الذي يحاصر الجمال.. القبح بدأ بحرف الحاء الذي يدور كالمخرز في الجرح .. غابت بهار، وبقي ضوعها أسراراً، وقدرة فائقة تبحث عن وعي أو حل، نقضها أم تأكيدها”(2)، في هذا النصِّ تجعلنا الرواية- نحن القرّاء- نلتقي بذواتنا لنكشف فيها مواقفنا من الحياة ورغباتنا المختبئة في بحر اللاوعي عندما نفقد شخصاً عزيزاً فيها، وهي ببساطة تُـثقفنا بما نريد إدراكه من قيم الحياة في ما يخص الموت والحياة ففي الأسطر التي تلت هذا الكلام مباشرة يُفصح بارق عن اسم فتاته الجديدة (مريم) وكأنه يوصلنا لبداية جديدة مع الحياة “ماذا عن مريم؟ أهي رسالة جديدة؟ أم تواصل الأسرار، نقضها أم تأكيدها؟ لا شيء يمكن أن يثنيه عن جهد مطلوب، وأمل يقترب ويبتعد”(3)، وبذلك يكون السرد المرآة السحريَّة التي تُخبرنا عن الأماكن الخفيَّة في مراكز تفكيرنا غير المعلن، ومفهوم كونديرا هذا يجد له تطابقاً أكيداً مع ما فعله بارق الذي لم يكفّ عن تأمله في الوجود وهو يبحث عن المعرفة والحب معاً.
أما (دانيال) في رواية الحيوان وأنا فهو يجعلنا نغور بعيداً ونحن نقرأ الرواية وكأنه يدعونا كي نبحث عميقاً في أعماق بطلها، علّنا نستطيع أن نطبطب على كتف المنعزل الذي يصر أنه ليس آثماً، إلا أنه جعلنا ندين روحه التي أراد أن يُحلِّق بها في عالم التوحد مع الحيوان، بمنأى عن البشر فأخفق باعتراف حيواناته نفسها حين تراءى له أنَّ حصانه ظلام يحادث كلبه ليل بذلك وكأنهما يسخران منه، وبذلك كانت العزلة بالنسبة إليه مفتاح الوعي بأنَّ هناك خطأ ما في الطبيعة وعلى الإنسان أن يدفع ضريبته، وإن لم تكن مفتاحاً له فهي أشبه بطلاسم يستطيع من تأملها القارئ أن يتفكر ماذا يريد هذا الرجل المنعزل في هروبه نحو الأمام أي نحو الحياة لينهي الرواية وهو يقول في آخر عبارة له أنا جاهز للموت(4) فهل لإنسان مثل دانيال أن يترك وراءه فردوساً جميلاً أدركه بعد تعلقه بذكرى المرأة التي جاءت لتسكن معه في المزرعة ويسير نحو فنائه؟ تلك أسئلة تتنامى في عقل المتلقي وترمي به نحو غياهب الرفض وعدم مشروعيَّة القبول.
وبالعودة لحيوانات دانيال نجد أنَّ التفكير في شيء غير إنساني بطريقة تضفي عليه صفات إنسانيَّة يجعل هذا الشيء مستحقاً للرعاية والمعاملة الأخلاقيَّة، كما أنه يصبح مسؤولًا عن أفعاله وهذا ما فعله دانيال مع حيواناته التي يحبها ويعدها ضمن دائرة أصدقائه ولا يسمح لشيء بأن يشغله عنها وهو يحادثها بطريقة يطلق عليها علماء النفس مصطلح (التجسيد)(5) وهو ما نطلق عليه في الأدب الأنسنة، ولكننا نقرأ ونصاب بالحيرة فهل تأنسنت الحيوانات عند دانيال أو تحيونت الصفات في حسبانه وتفكيره هو، فأخذت خصاله تنداح نحو ألفة غريبة لهذه المخلوقات بدافع الحب والطمأنينة المنقطعة النظير معهم؟ أسئلة كثيرة تبحث عن إجابات لا رابط يجمعها سوى التوحد مع فكرة هجينة تعالج مأزق الوجود الإنساني في عالم بغيض لا يرحم، يفرض الغربة على الإنسان في مجتمعه البشري. ولا يجد الإنسان فكاكاً من عزلته إلا بالتماهي مع حيوانه الأليف الذي يعيش معه رفيقاً وأخاً وصديقاً، وأنيساً فيفرح الإنسان لفرح حيوانه، ويحزن لحزنه، ويخاطبه ويتحدث إليه، يجادلهُ، ويغضب منه وقد يستهزئ به الحيوان ولا يستمع إليه. ينظر إليه بعيون كلها توبيخ إذا ما أخطأ في معاملته له ويضحي من أجله أو ربما يدفع حياته ثمناً دون ذنب من أجل صاحبه كما حصل مع (ظلام) وهو حصان دانيال الذي قُتل على يد مجرمين كانوا يحاولون ابتزاز أحد الأصدقاء البشريين لدانيال وهو (أبو رامي) الذي هُدِّد بإلحاق الأذى بابنته إذا لم يدفع مبلغاً مالياً لأولئك المجرمين، الأمر الذي اضطره لأن يجلب ابنته (موج) للعيش مع دانيال في المزرعة لحين تأمين خروجها خارج البلد وكان هذا أول اختراق لعزلة دانيال المفترضة، لكنه اختراق لم ينجح في ثنيه عن الاستمرار في عالمه الخاص مع الحيوان فالحيوان جزء لا يتجزأ من تفاصيل حياته وهو هنا لا يماثل بارق في رواية طفولة جبل، إذ إنَّ الأخير كان يدور في عالم ثنائي: الخير والشر، الإحباط والأمل، هاجس الفناء وهاجس البقاء. هاجس الفناء يتشكل من كلِّ الأشرار والظلام في هذا العالم. وهو الشرخ الذي يمتد من جسده نحو الطبيعة والدافع نحو التأمل في الوقت نفسه وهذا ما دعاه لأن يترقب كلَّ نائمة في حيوات الطبيعة ومؤثرات انتهاك البشر لها ففي إحدى جولاته رأى رجلاً يتعدى على مجرى نهر الروبال فتحسّس “شيئاً يشبه السكون ابتلع صوت النهر.. صوت كائناته.. حتى الطيور اتخذت لها مساراً يبتعد عن البقعـة تلك في اتجاهها إلى أعشاشها”(6) ثم يستشعر أنين النهر وبعد ذلك يدرك أنه “لم يكن ما فعله الرجل غير فضيحة، أثقلت كاهـل الصبي، وأجبرته على التهام أوراق شجرة دفلى.. طعم المرارة في فمه، وجوفه يتشقق عطشاً لفعل يغسل فضيحة الرجل في اعتدائه على النهر، وكائناته الجميلة.. سر الرجـل، فضيحتـه والإحساس بالفضيحة، حصة الصبي، أما الرجل فإنه غير مسؤول عن إحساس غيره وليس في عمله ما يمكن أن يثلم أخلاقياته”(7). إنَّ لبارق مدًى فكرياً أوسع بكثير من الذي كان عند دانيال فهو يستنطق ألم الطبيعة برمّتها ولا ينهمم بالحيوان وحده بل يكشف عن حس مرهف وروح قلقة، ومجال واسع من الحب بكل أشكاله: حب الإنسان والحيوان، حب النساء وحب الطبيعة والفصول وحب الأرض والنهر والجبل مع رفض لكل أشكال الاضطهاد الذي يمارسه البشر خدمة لمصلحته الشخصيَّة، في مقابل ذلك هناك ما يثبت في الرواية أنه لا يمكن للإنسان أن يعيش بمعزل عن المكان الذي يعيش فيه بل هو ينسجم معه بطريقة تدعوه لأن يتمازج مع مكوناته ولذلك يتحدث عنه السارد بالقول: “كيف لا يمتلئ الصبي بنفسه، وهو الذي يضجّ بالملاحظــة والحركــة والكتـابة والتفكير والحديث مع النـهر وكائناتـــه الصغيرة أو الكبيرة.. المعلنة أو السريَّة.. لم يكن في هذا الإنتـاج قدرة خارقة، ولم يكــن سلوكه سوى إخلاص لهذه القدرة..”(8).
المرأة كاسرة لفكرة الانعزال
خضعت الأجساد على مدار فترات كتابة الأدب لمنازل شرفيَّة قائمة على احتضان الجمال وربطه بالتفاعل الديمومي للحياة، وبناءً على هذه المنازل الشرفيَّة تمّت صياغة مواقف معرفيَّة تتعلق بالنوع البيولوجي، لكنها مواقف ظلت رهينة لتصورات قطبي الذكورة والأنوثة اللذين يقعان في ثنائيَّة عامة متضادة (جاف، رطب/ أعلى، أسفل/ وطاهر، مدنس/ مثير، بليد/ جميل، قبيح)، هذه التضادات شكّلت تأريخاً سرياً للجسد، وتأريخاً للبيولوجيا الإنسانيَّة، لتنشأ عنها لاحقاً مواقف وقيم وتراتبيات رمزيَّة، تعتمد في حمولاتها على هذا التاريخ الدائم الكشف عن مواطن الاهتمام الأدبي في ما يخصه، ولا غرابة أن يكون هذا التاريخ التأسيسي للجسد وتراتبيته قادماً من المرويات الكبرى أي النصوص التأسيسيَّة والمشاغل الفلسفيَّة القديمة التي تدعمها تصورات المجتمعات ذات الطبيعة النصوصيَّة التي تعتمد فكرة الحب ما بين المرأة والرجل أساسا يطرح تجارب الجسد وهو ما يمكن التعويل عليه تماما في التوقف عند التيمات الأساسيَّة التي تقولب المرأة بصفتها الأنثويَّة وهذا تحديداً ما عملت عليه الروايتان محل اشتغالنا، فالحب يقوم بدور الرابط ذي الطبيعة الإنسانيَّة والفنيَّة في رواية طفولة جبل وقد تجسد بارتباط بارق ببهار أولاً ومن ثم ارتباطه بمريم بعد موت بهار، فعلى الجانب الإنساني كان للحب الدور الفاعل في تشكيل وعي بارق ومن ثم منحه القدرة على قيامه بدور الباحث عن المعرفة فلقد تأسس النص على وفق كشوفات تتأتى لتزيح فكرة العزلة بشكل تتابعي وهو ما جعله يؤمن عند لقائه الأول ببهار أنَّ “الارتباط لا يعني سوى المعرفة.. والمعرفة الحقة لا تعني سوى الحب.. وكل معرفة لا تُبنى على الحب، مطعونة”(9).
ومن ثم كونت نتائج النص منطقيَّة لامست حواس بارق الذي كان خيط وصوله الأول لمحبوبته بهار يرتكز فيه على حواسه بعد أن سمع صوتها الذي كان يتردد عليه بشكل يومي وهي تغني بشجن أخاذ وما كان بث رسالة النص والكشف عن تفاعل المتلقي وإدراكه عبرها إلا نتيجة لهذا الوعي الجديد الذي ارتكز على منطقيَّة الحدث، حدث التوافق والتواصل الروحي بين الرجل والمرأة بوصفهما عنصري الحياة ونواة تشكيل العالم مهما اختلفت الرؤى، وتنوعت المساعي وهو ما يصب في تأكيد فكرة الرحلة الوجوديَّة التي يعيشها بارق وبهار، والتي تكللت في نهايتها إلى ما يوصله لمعرفة أنَّ “البحث عن المعنى خارج الحياة، مطعون بالهرب من الحياة نفسها، والبحث الحقيقي لا يتم إلا من الداخل.. من الإخلاص للحياة”(10). وقد ترسخت فكرة المعرفة تلك وهي تتواشج ضمن نتائج واحدة ما بين بارق ومريم أيضاً وهي في مجملها استطاعت أن تدحض فكرة العزلة وترمي بها إلى أودية النسيان بعد أن فهم حكمة الأنثى وإصرارها على الحياة بما يمنح رؤية أعمق لعالمه وموجوداته.
في رواية الحيوان وأنا كان دانيال كمن يعمل على تهيئة النفس للموت وهو غير معني بدوافع لا شعوره التي كان يحاول أن يغطي عليها باستجابته للتنازل عن آدميته المفتعلة من قبله، هذا الافتعال الذي كانت تتكسر قشرته عند تواصله مع أصدقائه (أبو رامي ونور الدين وحامد ومرتضى) وهو الافتعال نفسه الذي جعله لا يجيب ولده عندما أخذ رأيه بفكرة جلب امرأة أرملة لتعيش معه في المزرعة إلا بسؤاله عن موعد وصولها من دون ممانعة أو تفكير، لتتحقق زلازل النفس وتفعل فعلها وهي تفطر أرض الوهم والتوهم بالوحدة والانعزال، وبعد أن سمح لذكرى أن ترمّم شروخه وتعيده لإجلال الحياة وتُعيد إليه توازنه وتساعده لكي تندمل مخاوفه من العالم الخارجي الذي أدرك عدم قدرته على الفكاك منه حتى وإن ذهب لآخر الدنيا، وقد أيقن ذلك أيضاً بعد تجربته المريرة بمقتل ظلام وتهديد أمن مزرعته.
إنَّ معاناة دانيال لا تكمن في علاقته مع الآخرين فحسب وإنما تأسست أزمته منذ شعر أنه يعايش شخصيتين في داخله، فقد وضعنا في موقف تتجلى فيه الذات في تعاملها مع تكوينها الذي تبرز صوره في (التناقض، الإحباط ، حب الذات) وفكرته تلك التي يطلقها علينا أنَّ في داخله الشاب بميوله ورغباته وعنفوانه لكنه مبتلى بخدمة حيوانه أي الشخصيَّة الثانية في ذاته وهو الرجل السبعيني، وفي ذلك إكراه يؤدي إلى اغتراب لا يملك حاضنه الثقافي لعدم قدرته على التكيف وفقاً لمعطيات الطبيعة الإنسانيَّة ومدى قدرتها على الحضور والتماسك النفسي، وهذا الأمر جعله بين خيارين أما أن يسحق وجوده دفعة واحدة بقضائه على الشخصيتين في داخله أو إحياء واحدة منها، والخياران لا يقبلهما منطق الحياة لذلك توجب عليه أن يحقق التوازن مع نفسه ومع بيئته ومع حبه للناس الذي ما كان له أن يتفتق في ثنايا روحه إلا بعد أن صفا بذهنه وهو خارج المزرعة عندما سافر إلى لندن مع صديقه أبو رامي وشعر باشتياقه للمزرعة وتوقه للمرأة التي تساكنه فيها، وهذا طبيعي بعد أن عانت الذات من صراع مرير في سبيل الخروج من العزلة، والفضل في ذلك يعود للأنا المتوحدة في شخصيَّة دانيال وليست المنشطرة على نفسها، فهذه الأنا تعمل على تنمية قدرتها عبر التواصل مع الآخرين لا عبر الانعزال عنهم، وتتعزز عن طريق دخولها معهم في علاقات اجتماعيَّة وعاطفيَّة لمواجهة عزلتها، مع حرصها على المحافظة على خصائصها وحريتها من جهة، وعلوها وسموها من جهة أخرى، عن طريق الاتحاد بأنا أخرى تكون على شاكلتها وتعمل على فهمها فهماً صادقاً، وإذا حدث عكس ذلك، يكون سبباً في تعميق عزلتها ومن ثم اغترابها المنتظر، وما قصدته بتلك الأنا الأخرى هي أنا ذكرى التي ذكر توافقه المنشود معها في أكثر من موقف ومن ذلك عندما شكا لها عدم اطمئنانه وأنَّ أمن مزرعته مهدد وكانت إجابتها ألّا تتشكى وتندب الحظ بل تعطيه الحلّ المناسب بضرورة حمل السلاح وكانت باستجابتها تلك وتقديرها لخطورة الوضع قد أرست قواعد القبول لديه تجاهها، وتحقيق عقد اتفاق أولي للخروج من العزلة لديه.
وفي نهاية ما توصلنا إليه أنَّ من الملاحظ كلما شعر الإنسان بالغربة عن مجتمعه البشري، بسبب الظروف السياسيَّة والحياتيَّة والاقتصاديَّة، لجأ إلى الحيوان أو إلى مجتمع الحيوان ليتنفس الصعداء، وليجد في ذلك المجتمع الراحة والطمأنينة (حتى لو كانت مؤقتة) بعيداً عن ظلم بني البشر وهذا يتوضح جلياً في الرواية عندما يصف أحد أصدقاء دانيال زيارة صديقه باصي إليه بعد إجرائه عمليَّة جراحيَّة وكيف أنه استطاع أن يفلسف الوضع المغترب عنه بانشداده لرواياته الحالمة بأن تعامل مع صديقه المريض بعد أن أكرمه أن يبصق في وجهه خاتماً قوله إنها الطريقة التي تصور حال المجتمع الذي يتهمونه بالعزلة والاغتراب عنه في طريقة قاسية لوصف حالة نكران الأخلاق وسلبيَّة المواقف، وفي الأدب العربي القديم هناك صور عدة تمثل وصفاً لحالة التماهي مع الحيوان بهذه الطريقة فقد لجأ الشنفرى إلى هذا المجتمع الحيواني في لاميته الشهيرة وتحدث الفرزدق وجرير عن العلاقة مع الذئب، وتربى سيف بن ذي يزن، وفقاً للأسطورة، لدى أمه الغزالة وكذلك حي بن يقظان.
وهذا النزوع نحو العزلة والاغتراب لم يكن محدوداً جغرافياً في المكان والابتعاد عنه في الروايتين، ولكنه كان ارتحالاً معنوياً لاكتشاف الذات، وأنَّ هناك حرباً ضروساً ما بين معطيات الواقع ومتطلبات ذواتنا يتعين خوضها للتغلب على هذا الجانب الذي يرمي بذور الفكر المغاير إيديولوجياً فيثمر أشواكاً تروم الانقطاع عن العالم.
الهوامش :
1 ـ ينظر: ثلاثيَّة حول الرواية: فن الرواية، الوصايا المغدورة، الستار، ميلان كونديرا، ت: بدر الدين عرودكي، القاهرة، المركز القومي للترجمة، 2007.
2ـ صفحة 213 من رواية طفولة جبل.
3 ـ صفحة 213 من رواية طفولة جبل.
4ـ ينظر: الصفحة الأخيرة من رواية الحيوان وأنا.
5ـ ينظر: معجم المصطلحات العربيَّة في اللغة والأدب، مجدي وهبة وكامل المهندس، مكتبة لبنان، ط2، 1984، ص102.
6 ـ صفحة 42 من رواية طفولة جبل.
7ـ صفحة 43 من رواية طفولة جبل.
8 ـ صفحة 40 من رواية طفولة جبل.
9 ـ صفحة 50 من رواية طفولة جبل.
10 ـ صفحة 215 من رواية طفولة جبل.