الحيويَّة الماليَّة في العراق وقانون فاغنر

آراء 2023/09/17
...







 د. حامد رحيم


 ما هيَّ القيمة الاقتصاديَّة  (لسنارة صيد السمك) لبدو الصحراء إذا ما قارناها (بالجمل)؟ بالتأكيد سنجد الفارق شاسعًا لصالح الثاني، فهو مرتبطٌ بالحياة اليوميَّة لهم، نعم ربّما تقود الصدف إلى مرورهم من نهرٍ أو بركة ماءٍ فيها بعض الأسماك، لكن تنقّلهم وسفرهم وأحمالهم وغيرها هم بحاجة ماسة للبعير. بهذه المقاربة ممكن أن نفهم حقيقة أهميَّة (الماليَّة العامّة) الحكوميَّة بالنسبة للبلدان المتخلّفة، مع الأخذ بنظر الاعتبار أولويَّة تحقيق التنمية الاقتصاديَّة، وبهذا الصدد يقول الخبير الاقتصادي أ.د مدحت القريشي “ لا يمكن أنْ نتصوّر وجود تنميةٍ اقتصاديَّةٍ، من دون دورٍ حكوميٍّ نشط”، مع أهميَّة السياسات الأخرى، لكنّها لن تحقق تنميَّة دون ان تكون الماليَّة العامّة رشيدة وهادفة لتحقيق النقلة النوعيَّة في النشاط الاقتصادي القائم.

في العراق أخذت الماليَّة العامّة الحكوميَّة دور الصدارة، وكانت السبب في تجذر التخلّف الاقتصادي، فكانت هيَّ البوابة لهدر موارد العراق عبر السنوات الماضية، من دون أيِّ أثرٍ تنمويٍّ يذكر، بل إنَّها أسست لممارساتٍ لن تنمو في ظلّها أيُّ توجهاتٍ تنمويَّةٍ كالإسراف والتبذير وتعاظم الإنفاق التشغيلي، غير المجدي تنمويًّا وعلى رأس كل ذلك (الفساد)، الذي أصبح العلامة الفارقة في الأداء الحكومي. كثيرٌ هيَّ المؤشرات، التي تعالج موضوع الماليَّة العامّة لقياس كفاءتها وفاعليتها في تحقيق أهدافها، واليوم يطلُّ علينا صندوق النقد الدولي بمؤشرٍ جديدٍ يُعالج قضيَّة الماليَّة العامّة في الدول الريعيَّة، وبالتأكيد ينطبق على العراق بشكلٍ كبيرٍ، كونه اقتصاداً ريعياً بامتياز، ألا وهو مؤشر الحيويَّة الماليَّة والمقاس كميًّا عبر المعادلة الاتية:

(الإيرادات الحكوميَّة غير النفطية - الإنفاق العام الكلي/ الناتج المحلي الإجمالي) 

وفقًا لدراسةٍ منشورةٍ للخبير الاقتصادي أ.د مظهر محمد صالح، فإنَّ قيمة هذا المؤشر لعام 2023 كانت (سالب 75%) بعد أنْ كانت هذه النسبة في العام 2022 (سالب 67 %) وفي العام 2021 (سالب 57 %). 

إنَّ الحالة السلبيَّة في تنامٍ مما يعكس حقيقة تدهورٍ فعليٍّ في الأداء المالي الحكومي يضيف صورةً سوداويَّةً أخرى للماليَّة العامّة في العراق، ما يعزز من دورها الفاشل في تحقيق التنمية الاقتصاديَّة، إذ ما زال النفط يشكّل المصدر المتفرّد تقريبًا في الإيرادات العامّة على حساب التنوع في مصادر الإيرادات غير النفطيَّة، ليرسم صورةً ريعيَّةً قاتمةً، تجعل الاقتصاد ليس بعيدًا عن تحقيق التنمية فحسب، بل يجعله كقاربٍ صغيرٍ وسط َأمواجٍ عاتيَّةٍ تقاذفه يمينًا ويسارا.

إنَّ القوانين الاقتصاديَّة تحتاج إلى مساراتٍ محدّدة، لتظهر فاعليتها في التأثير في المتغيرات، بمعنى وسط الاختلال الهيكلي للنشاط الاقتصادي لن نجدَّ لأغلب القوانين الاقتصاديَّة  وجودًا مؤثرًا، ولعلَّ قانون فاغنر واحدٌ منها، فقد اكتشف العالم الألماني أنَّ الاتجاه العام للإنفاق الحكومي يكون في تزايدٍ مع الزمن، ويرى السبب في ذلك هو تنامي الحاجة للخدمات الحكوميَّة على أصعدةٍ كثيرةٍ نتيجة لتطور الحياة، أي أنَّ هناك علاقةً طرديَّةً بين النمو الاقتصادي والإنفاق الحكومي، باعتبار المتغيَّر الأول يكون مفسّرًا وموضّحًا للمتغيّر الثاني، وهذا القانون في الواقع العراقي مشوهٌ جدا، وتبيِّن الحالة الواقعيَّة لمسيرة النمو في الإنفاق الحكومي غير معطيات هذا القانون.

إنَّ الكيفيَّة التي تسيّر علاقة الإنفاق الحكومي بالناتج المحلي مقلوبةٌ، وتقوم على حالة الفصل بين متغيرات الناتج، التي تقود إلى النمو الاقتصادي، وبين الأداء الحكومي عبر الموازنة العامّة، فالنمو بمعناه الاقتصادي غير موجودٍ، بل هيَّ عمليات تحسن في النسب سنويا، نتيجة لتغيرات أسعار النفط وكميته المنتجة ولا أثر مهمًا لمكونات الناتج الأخرى، كالزراعة والصناعة والخدمات والمعرفة وغيرها، ومع الأخذ بنظر الاعتبار المؤشّر المشار إليه آنفا، فإنَّ إهمال مصادر الإيرادات الأخرى وتعمّد خفض مساهمتها كالإعفاءات الضريبة وإطفاء ضريبة الاتصالات وتسيّب الحدود وفشل التعرفة الجمركية في إحداث إيرادات فعليَّة للموازنة وغيرها يعمّق المشكلة.

إن هذا الانفصال بين نمو الانفاق والناتج المحلي غير النفطي، يربك المشهد الاقتصادي، ويجعله بعيدًا عن أدبيات التنمية الاقتصاديَّة، وعليه الإصلاح في هذه الجزئيَّة يحتاج إلى أن تكون القرارات والسياسات الماليَّة بعيدةً عن التأثّر بالعواملِ السياسيَّة، التي تقود إلى البحث عن مكتسباتٍ سياسيَّةٍ للقوى الفاعلة سياسيًّا على حساب التوجهات التنمويَّة، وهذا يبدو بعيد المنال عن عقليَّة طبقة حكم تبحث عن تجذّرها في الحياة السياسيَّة على حساب المصالح الاقتصاديَّة  العليا.