كيفَ يُساعدُنا الانتباهُ على تحسين كتاباتِنا في عصر التشتّت؟
سكوت إدوارد أندرسون
ترجمة: علي رحمن
في هذا المقالة الشاعرية عن حياة الكتابة، يوضح سكوت إدوارد أندرسون كيف يمكن أن يكون الشعر أكثر من مجرد نهج رسمي للكتابة، أكثر من كونه نشاطا تقنيا، بل يمكن أن يكون وسيلة للتعامل مع العالم، وهذا الذي يفيد الشاعر والقصيدة. (گرانت كلاوزر، المحرّر).
سيرا في حديقة ويساهيكون بعد أن قمت بتوصيل توأمي إلى مدرستهما في فيلادلفيا، أجد دروبا موحلة من أمطار الليل الغزيرة وجداول مؤقتة تجري على امتداد مساري. أزهار نبات الفوشيا لشجرة البراعم الحمر تلتمع ببريق مذهل أمام اللون الأخضر للشجيرات المتفتحة مبكرا. بعض السناجب تندفع بين الأوراق على أرض الغابة.
غناء الطيور حولي: ألاحظ بعض الطيور - لو كانت تلمع أو تقترب كفاية من المسار أو لو ميزتُ أصواتها- تومض اللمعة الحمراء للكاردينال على غصن قريب؛ يهبط طائر الروبن على المسار أمامي، يخدش منقاره الأصفر الصخرة.
مثل هذه الملاحظات تساعد في تغذية قاعدة بياناتي الصورية وتشظيات الموسيقى والخطابات التي سُمِعت بالصدفة، والتي تهيئ ذهني الشعري للعمل على اختيار الكلمات وترتيبها بترتيب معين وتشكيل العبارات إلى أبيات، وفي نهاية المطاف إلى قصائد كاملة.
متذكرًا البيت الذي أعمل عليه، قلق حياله مثل كلب وعظمة، بقضم الكلمات، التركيب، الصور، الصوت أو الإحساس في فمي وذهني. باللعب مع السطر، سأتبعه حتى يقودني إلى مكان ما أو يرميني في حفرة، آنذاك سأحفظه ليوم آخر. أنا أتمعن بالمكان الذي ترغب أن تذهب إليه القصيدة.
***
صعبٌ أن تتمعن في عصر التشتت. في أي لحظة، هناك مجموعة متنوعة من المشتتات المغرية للابتعاد عن كتابتنا: التغريدة المنمّقةُ الأخيرة لرئيسنا المضطرب؛ أحد الشخوص ينشر صورة لوجبة طعام لذيذة على إنستجرام؛ أو تدفق مستمر من منشورات الفيسبوك تُظهر جميع أصدقائي الشعراء والمعارف وهم يلتقون في جمعية الكتّاب وبرامج الكتابة. بطرقٍ كثيرة، كانت حياة الكتابة كما يبدو أسهل في عصر الآلة الكاتبة - لا شيء سوى صفحة فارغة تنظر إليّ بانتظار أن تتحرك أصابعي. لا هاتف ذكي في متناول اليد يهتزُّ بآخر نص من زوجتي، أطفالي، أو من طلبية التوصيل من موقع أمازون. «دقيقة واحدة فقط لنرى من هذا» أقول لنفسي. «سأعود للكتابة».
ومن ثمَّ، يكون الأمر أسوأ عند الكتابة على الكومبيوتر، خاصة إذا كان متصلًا بالإنترنت. كتابة شيء عن طائر سمعته يغرّد في نزهتي هذا الصباح، أتساءل- هل تتواجد هذه الطيور هنا؟، في هذا الوقت من العام؟، هل هذه هي الأغنية التي سمعتها؟، دعونا نلقي نظرة على موقع كورنيل الذي يرصد الطيور ونتحقق... انتظر، هل هو مرصد الطيور أم مركز علم الطيور؟ (يختصر من مستند ملف (word) وينقر على فتح المتصفح... آه، إنه مختبر كورنيل لعلم الطيور... أشعر بتحسن.)كتب الراحل مارك ستراند: “الشعر يسمح لنا أن نمتلك الحياة التي حُرمنا منها لانشغالنا الكثير بالعيش. وبشكل أكثر تناقضًا، يسمح لنا الشعر أن نعيش في أنفسنا كما لو كُنا خارج نطاق أنفسنا”.لو نتمعن، على أية حال، يمكننا وضع انشغالات حياتنا في أسلوب، لخلق سياق لما نقوم به على هذا الكوكب. للعيش بهذه الطريقة، لا تكون الحياة مجرد فعل الأشياء؛ بل هي المشاركة الفعّالة في الحياة، في جميع جوانبها. وبالنسبة للشعراء، يعني هذا الاقتراب من الحياة بعيون مفتوحة وتدوين الملاحظات.
“لا أملك هدفًا واضحًا في ذهني عندما أكتب الملاحظات”، تقول الشاعرة والكاتبة أليسون هاثورن ديمينغ في “كتابة المقدس في الواقع”. “بخلاف مساعدة نفسي، أتذكر شدة اليوم، ومزيج الأحاسيس والأفكار كما ترتفعُ وتنخفض مع الأمواج”
بالنسبة لي، تكون كتابتي للملاحظات بشكل متقطع.في العادة، أعمل على القصائد في ذهني لفترة طويلة قبل أن أضع أي شيء على الورقة. ومع مرور الوقت، أعتقد أن كتابة الملاحظات يساعد - بشكل خاص إذا كنت مشغولًا بالحياة اليومية - العمل، والأسرة، وتسلم الملابس الجافة. تطبيق “الملاحظات” على هاتفي الآيفون هو أحد أماكن التخزين، والمفكرات وأحيانًا قطع الورق هي مكان تخزين آخر.كما هو الحال مع ديمينغ، قد تؤدي أو لا تؤدي كتابة الملاحظات لديَّ إلى قصيدة أو مقال أو أي شيء آخر. ومع ذلك، كما تشير، “أن كتابة الملاحظات يفرض نوعًا من الاهتمام يجعل التجربة أكثر غنى، والاهتمام مركزي للممارسة الفنيّة والروحيّة على حدٍّ سواء”.
“ممارسة”. هذه المفردة تتحدث إليَّ: يبدو الشعر كممارسة صحيحًا. نحن هواة بنوع من الترجمة لما لا يمكن قوله، والقيام بذلك يتطلب تمعنًا وممارسة.
على الرغم من أن علينا التمعن باللحظات الزاهية من الإلهام، إلا أننا في أغلب الأوقات نعمل على مسودة بعد المسودة من القصيدة، لمحاولة حقيقية في إيجاد وجهة ذهاب القصيدة.ولذلك، نحن بحاجة إلى ممارسة يومية. يقترح أزرا باوند للشعراء أن يكتبوا 70 سطرًا في اليوم؛ وظل الروائي غراهام غرين ملتزمًا بكتابة 350- 500 كلمة يوميًا وسيتوقف حين يصل إلى هذا الحد. وعند الحساب، أجد أنها تقريبًا الكمية نفسها، بناءً على طول السطر النموذجي في الشعر المعاصر.
(وبناءً على هذا، ونظرًا لأنّنا في عصر التشتت، لا أثق بذاكرتي بشأن الحد الكلماتي لغرين، لذا، لا بدَّ من التحقق مرة أخرى. هناك أرقام متضاربة حتى من جراهام نفسه، لذلك سألتزم بهذا النطاق.)
***
تدريب الذهن-الشعري بهذه الطريقة يجعل التمعن أسهل، ليس فقط بما يحيطنا، لكن بكلماتنا وما تحاول القصيدة قوله. ويضاف لذلك، النتائج التي تعود من هذا العمل: التمعن هو ما تعتبره الشاعرة ماري أوليفر “عملنا اللا متناهي والملائم لنا”. ممارسة الشعر، مثل اليوغا، والتأمل، وممارسة التمارين الرياضيَّة، أو أي ممارسة أخرى، تُعِدُّنا للتمعن. ومن ثمّ، يؤدي الانتباه إلى الشعر الغني، المتجذّر في الأماكن، والتفاصيل، ومراقبة العالم الحقيقي، التي قد تُحيي القصيدة وتُساعد القارئ على رؤية العالم بطريقة مختلفة.كما هو الحال مع ملاحظات أليسون ديمينغ، سواء تمكّنا من الوصول إلى أي شيء “تم” أو أُنجِزَ مثل مسودة أو قصيدة مكتملة فليس هذا لب الموضوع، عملية الممارسة هي وحدها التي تسهّل إنجاز العمل وتجعلنا أكثر استقبالًا، وأكثر فعاليةً للقصائد التي علينا أن نكتبها.
بدورها، ممارسة كتابتنا، سواء من خلال تدوين الملاحظات أو كتابة المسودات، تسهّل التمعّن. من خلال هذه الممارسة، نصبح أكثر تواصلًا مع العالم من حولنا، وتكون القصائد أسهل في الظهور. (على الأقل المسودات الأولى السيئة!)
بالنسبة لي، ممارسة التمعّن جزءٌ من ممارسة الشعر، كما هي ممارسة الشعر جزءٌ من التمعّن، وهي علاقة تكافليّة ودوريّة. فهذا النوع من الانتباه الذي أكتب عنه يشبه ما يسميه ممارسو الزِن الاستماعَ العميق. وكما توحي تمارين الزِن التأمليّة، يتطلب الاستماع العميق قدرة استقبال كاملة - انفتاحًا وانتباهًا لما هو ممكن ولطرح الأسئلة. فلو كان هنالك سؤال يجاب عليه بالشعر، فعلينا طرحه. ومع ذلك، في أحيان كثيرة تكون عقولنا في وضع الطيار الآلي وأننا لا ننتبه حقًا، مما يسبب ضياع كل من الأسئلة والأجوبة.
هذا الاستماع العميق والانتباه الحاد هو نوعٌ من أنواع التوجيه إلى التردد الصحيح. تمامًا كقرص الراديو في السيارة، إذا قمت بتدويره قليلًا إلى أقصى اليمين أو اليسار، ستفقد الإشارة. من خلال فعل التمعّن، نعدّل قدرتنا لإيجاد التردّد الصحيح. فكر في عازف الكمان الجديد الذي يبحث عن النغمات الصحيحة باستخدام القوس على الأوتار - يكون بحاجة إلى الممارسة لخلق موسيقى شجية.
***
في شتاءٍ ما، يظهر طائر البنتن الملوّن في حديقة بروسبكت في بروكلين حيث أعيش. لقد ضلَّ طريقه ووجد ملجأ لعدة أسابيع، يبحث عن الطعام بين الأعشاب البريّة والشجيرات خلف حلبة التزلج على الجليد.شاهدتُ سابقًا طيور البنتن الملوّنة، في موطنها الجنوبي الأصلي، لذلك أريد رؤية هذا الزائر في بروكلين الذي ابتعد بعيدًا عن مكان انتمائه. العثور على موقعه العام سهل؛ فأنا أبحث عن مجموعة كبيرة من عشاق الطيور: مناظير ونظارات ميدانية وكاميرات ذات عدسات كبيرة متجهة نحو المكان.وحتى مع ريشه اللماع بألوانه العديدة، يكون من الصعب بالفعل تمييزه بين حَمارِ وخضار وصفارِ أرض المروج. فحين يراقبني كلبي وأنا أحدق في بقعة واحدة خمس دقائق يبدأ بفقدان صبره. بعد ذلك يخطف ضوء في عيني من اليسار فألمح شيئًا من اللون الأزرق المعدني الذي لا يمكن أن يتواجد هنا.
ها هو، طائر البنتن الملوّن، برّاقًا كما تخيلت: يستحق الانتظار، ويستحق البحث الشاق، ويستحق الصبر والعناء.
يمكن أن تكون القصيدة مثل هذا البنتن: يصعب إمساكها، يصعب تحديد مكانها، ولكن حال حصولك عليها، لا يمكنك التخلي عنها. بالتمعن بالألوان الخبيئةِ في أعماق الأعشاب، نحصل على لبّ سطرٍ أو عبارة تقود إلى سطر آخر، وآخر. في بعض الأحيان تكون غامضة، وفي أحيان أخرى يصعب استخراجها.
حين تأخذ القصيدة شكلها، تتطلب أيضًا انتباهًا. هل أوظف الكلمات الدقيقة للتعبير عمّا تريد القصيدة قوله؟، هل تسرع أو تبطئ فواصل الأسطر من وتيرة القارئ؟، ما هو الإيقاع واللحن والصوت الذي تنطق به القصيدة، وهل هو مناسب لموضوع القصيدة؟، هذه جميع الأسئلة التي أطرحها على نفسي حين أراجع قصائدي، مكرّسًا انتباهي لما يحدث في القصيدة وكيف يمكنني مساعدتها على أن تصبح أكثر وضوحًا - للابتعاد عن طريقها والسماح للقصيدة أن تروي نفسها.
هذا النوع من الانتباه للقصيدة، وضبط اللوحة للأعلى أو للأسفل لتحسين الترددات، يسمح للقصيدة بالتفرّد خلال الضجيج.
***
مراقبة العالم بتعمق تتطلّب نهجين مزدوجين للانتباه: النظر إلى الخارج والنظر إلى الداخل. النظر إلى الخارج: ما يحدث حولك وما تراه، وما تلاحظه. النظر إلى الداخل: ما يحدث داخلك وردود أفعالك نحو ما تلاحظه.وبمزج هذا التركيز الداخلي والخارجي تتطور قدرتنا على رؤية ما لا يراه الآخرون ويسمح لنا بالانتباه إلى تلك الأشياء في كتابتنا. انتباه التركيز الداخلي يساعد أيضًا في تحويل ملاحظة الأشياء إلى قصيدة، برصف الترددات والصور إلى مجازات بعملية معقدة من ابتكارنا الخاص.
من دون إهمال الجوانب الروحيَّة الكامنة في هذه المرحلة من الانتباه، إذ هو، جزئيًا على الأقل، نوع من الظهور، من الحضور، حيث لا يمكن تجاوز العنصر الروحي بالكامل. تحكم التشتتات الكثير من حياتنا - من وسائل التواصل الاجتماعي إلى العمل -الحياة- ونحن نادرًا ما نمنح وقتًا للانتباه العميق. وإذا جعلناه فعل ممارسة، يمكن أن نبدأ في تشكيل رؤى وأن نصبح أكثر استقبالًا للشعر حتى في حياتنا اليوميَّة.
قد يساعدنا الانتباه في اكتشاف ما لا يمكن قوله، في اكتشاف اللامرئي، وما نحتاج أن نراه ونقوله في شعرنا. بالطبع، يتطلب الانتباه في هذا العصر المليء بالتشتت إعادة تدريب أنفسنا في العديد من النواحي.من خلال ممارستي الخاصة، على أية حال، أجد كلما زاد الوقت الذي أخصصه للانتباه - سواء كان داخليًا أو خارجيًا - كلما قادني ذلك للوصول إلى قصائد أفضل.كتابة الشعر قد تكون عملًا غير طبيعي، كما قالت إليزابيث بيشوب ذات مرة، ولكن من خلال الممارسة اليوميّة والتمعّن، قد تصبح فعلًا طبيعيًا أو على الأقل قد تبدو هكذا في نظر القارئ.
عن المؤلف:
سكوت إدوارد له عدة مؤلفات من ضمنها:
Fallow Field (Aldrich Press, 2013) -Walks In Nature’s Empire-The Countryman Press, 1995).. لقد كان زميلًا في “كونكورديا” في مستوطنة “ميلاي” للفنون وحصل على جائزة “مراجعة
نبراسكا”.