الجوع كاستعارة

ثقافة 2023/09/20
...

 مايكل شولمان
 ترجمة: عبود الجابري

كانت سلسلة مقالات سوزان سونتاغ التي نشرتها عام 1978 بعنوان "المرض كاستعارة"، حدثا ثقافيا لا يزال يحفز التفكير والتحليل بعد مرور أربعين عاما. واستنادا إلى فحص النصوص التي تبدأ باليونانيين وتنتهي بنورمان ميلر، أشارت سونتاغ إلى الطرق العديدة التي شوه بها الفنانون والمثقفون الواقع الجسدي للمرض من خلال تفسيره بمصطلحات جماليّة أو نفسيّة. لكن على الرغم من أن المقال مثيرٌ للإعجاب بسبب بحثه ونواياه الطيبة، إلا أنه غير مقنع باعتباره جدليا.

على سبيل المثال، محاولة إظهار أن الاستعارات المرتبطة بالسل في القرن التاسع عشر (العاطفة، النشوة الإبداعيَّة) تتعارض مع تلك المرتبطة بالسرطان في يومنا هذا (القمع، العزلة الاجتماعية) تتناقض مع بعض استشهادات سونتاغ نفسها. والواقع أن الادعاء بأن الموت بسبب السرطان، على النقيض من مرض السل، لا يدعو أبداً إلى استعارات الإطراء التي تناقض فكرة التأبين: "لقد كانت دائماً في الخط الأمامي لتلقّي أي علاج ناجع، وقت اكتشافه"، كما كتب كريستوفر هيتشنز بعد وفاة سونتاغ بسرطان الدم. ما يعترض عليه الجميع هو فشلها في التمييز بين "التفكير المجازي" والمواقف الرافضة، تجاه المرض، تلك التي تعتمد فقط على الاستعارة بهدف التأثير البلاغي.
لكنَّ ما نجحت فيه "سونتاغ" هو خلق سوسيولوجيا المرض. وعلى طريقة التحليل ما بعد الحداثي، فإنَّ تركيزها على النصوص يفضح النظرة الفكريّة للمرض باعتباره ببساطة الوسيلة التي يختار بها بعض الأشخاص التعبير عن أنفسهم. إنَّهُ نهج مضيء، يكشفُ المعنى السري في المعالجة الأدبيَّة لآلام جسديَّة أخرى، ألا وهي المجاعة. فالجوع، مثل المرض، هو حدث بيولوجي. على عكس المرض، فهو دائمًا عذاب عظيم، لكن استعراضاً لقرون من الأدب يكشف أن الجوع، مثل المرض، يستدعي استعاراتٍ تُحوِّلُه من عذابْ جسدي إلى تعبير جسديٍّ عن فكرة
ٍ متعالية.
وكما يليق بعصر الأصوليَّة الدينيَّة، فإنَّ المجاعة في العصور الوسطى كانت بمثابة استعارة للتقوى المحمومة. إنّ رواية بيرس بلومان، وهي قصيدة تعبّديَّة كتبت في أواخر القرن الرابع عشر الميلادي، كانت تحية لمريم المجدليَّة، التي عاشت على "الجذور والندى" فقط. ومع ذلك، فإن الزهد هو رياضة تنافسية، ويمكن تفسير تناول "الجذور والندى"، إذا نظرنا إليه باستخفاف، على أنه شكل من أشكال الشراهة. كان ذلك في عصر "ألبايس كودو"، القديسة الكاثوليكية التي كتبت سيرتها الذاتية عام 1180 زاعمةً أنها تلقَّت قوت يومها من القربان المقدس وحده. كما رأى أوغسطينوس في اعترافاته فضيلة في الجوع المعتاد، حين كتب: "أخوض حربًا يوميَّة بالصوم، وأخضع جسدي باستمرار".
إنَّ الجوع، على الأقل إذا نظرنا إليه من الأعلى، لم يفقد أبداً طابعه كشكلٍ من أشكال المعاناة التي تعتبر أيضاً تضحيةً تستحق الثناء وتمنح المكانة. ينسب إلى كريستينا روسيتي، الراهبةً ذات الشعر الكثيف قولاً يتضمن الإشادة بأثر الصيام على الروح البشرية قائلة: "يجب تبخير النفس، وتجويع الأنانيَّة. "
استعارات الجوع، كما لاحظت سونتاغ عن استعارات المرض، مثيرة للقلق لأنها تسحب التعاطف وتقدم "المعنى" بصورة مباشرة، حيث يكون "المعنى" بمثابة ذريعة للإهمال. ولكن هل يمكن حقاً إلقاء اللوم على الاستعارات نفسها؟ لم تدافع سونتاغ أبدًا عن تأكيدها على أن "الطريقة الأكثر صحة للمرض هي الطريقة الأكثر طهارة". وقالت إنها ستجد صعوبة في القيام بذلك. تزودنا الاستعارات باللغة التي تغرس الأمل وتدعم الشجاعة. إن الأطباء الذين يرغبون بإخلاص في تنوير المرضى يدركون أن الاستعارات المختارة بعناية أكثر فائدة إلى حد كبير من المصطلحات الطبيَّة، التي لا تقدم سوى وهم المعرفة المشتركة. وعندما تكون المعاناة نهائيَّة، ولم يعد من الممكن التحدث عن العلاج، فإنَّ الاستعارة هي اللغة الطبيعيَّة للمواساة
 والتذكر.
لكن إذا لم تكن الاستعارة هي العنصر السام الذي تزعمه سونتاغ، فكيف نفسّر وصم المرض في مصادرها الأدبيَّة؟ إنَّ دعم المواقف التي توثقها سونتاغ بشكل جيد هو الإيمان القديم بالذات غير الماديَّة المحبوسة في الجسم مثل طائر في قفص. لا ينبغي أن تكون هذه الثنائيَّة بين العقل والجسد خبيثة، ولكن الضرر الكبير يحدث عندما يتم تصور الروح على أنها مجرد متفرج على المجاعة الجسديَّة. وعلى العكس من ذلك، في تلك الحالات، قد يتم الترحيب بانحسار الطاقة الحيويَّة للفرد كدليل على الإخلاص، أو دليل على الأنوثة، أو رمز للسلطة الأخلاقيَّة على وسطاء السلطة في المجتمع. عندما تشتكي سونتاغ من التفكير المجازي، فإنها عادةً ما تستنكر هذه العادة الأكثر تدميراً للعقل. وهي محقة تمامًا في لفت الانتباه إلى ضعف الدافع للعلاج أو التخفيف الذي يحدث إذا تم اعتبار المرض بمثابة مظهر نصف إرادة لذواتنا الحقيقيَّة.
بعد التخمة من فلسفة الجوع كتطهير روحي، فإن الصراحة في رواية كامو "الطاعون" تبدو إيجابيَّة بشكل مقبول: هناك أوبئة وهناك ضحايا، وبقدر الإمكان، يجب على المرء أن يرفض أن يكون إلى جانب الوباء. وبهذا المنطق ــ المنطق الذي يدافع عن الصحة بدلًا من المرض ــ فإنَّ النظرة الرومانسيَّة للصيام كسلاح مقدس، أو فضيلة أنثويَّة، أو عباءة قدسيَّة، يجب أن لا تضع المرء على نحو غير معقول إلى جانب الجوع، ليس لأنَّ التفكير مجازي. ولكن لأنّه ضرب من التفكير المخالف للحياة. الجوع، إذا نظرنا إليه ببرود، لا يختلف عن التعفّن. إن الفلاسفة والفنانين الذين يدركون النبل في الجوع يعطون الجوع ــ المهين والمؤلم واللا مبرر ــ هالة لا تستحقها.
ومع ذلك، لا يمكن لثنائية العقل والجسد ولا الاستعارات غير الحكيمة أن تفسر بشكل كامل رغبة الإنسان في تحقيق الذات من خلال تطهير الغريزة واختيار التضور جوعًا بدلًا من ذلك. تم تصميم "فنان الجوع" لكافكا على غرار فناني الأداء الحقيقيين الذين انتشروا في أوروبا في ثلاثينيات القرن العشرين، حيث صوَّروا صيامهم كنوع من الرفاهية، وزعم الروائي الأسباني كارلوس زافون أن "باريس هي المدينة الوحيدة التي لا يزال الجوع حتى الموت فيها، يعتبر فناً". ولكن من المؤسف أن إيذاء الذات ليس مقدّسًا إلى هذا الحد، حيث يندر أن نجد مكانًا في العالم لا يعطي فيه الوجه الهزيل هالة من القداسة. ما نطلبه، ليس لغة مجردة من الاستعارة - من شأنها أن تؤدي فقط إلى إفقارنا - ولكن روحًا لا تضفي طابعًا رومانسيًا على المعاناة. على الرغم من كل القداسة المحيطة به، فإنَّ الجوع هو لعنة، لعنة يمكن علاجها، زائر شيطاني يتطلب منا كلَّ دافع لتأكيد الحياة، أن نطرده من مكانه المتميز بين البؤس البشري. ومع ذلك، فقد تكيف مفكرو القرن التاسع عشر على نحو متزايد مع القيود التي فرضتها الطبقة المتوسطة، حيث نظروا إلى الجوع باعتباره مصيرًا يصيب بشكل مؤسف، المخلوقات الضعيفة في الحياة، حاول جورج أورويل بعد تراجعه عن وحشيته كشرطي استعماري في بورما أن يموت جوعاً لفترة وجيزة في الأحياء الفقيرة في باريس، استمتع بمعدته الفارغة باعتبارها قرباناً للتكفير الإمبريالي. وفي وقت لاحق كتب "سياسة التجويع"، حيث أعاد تصوير الجوع كرمز لخطايا الإمبريالية. وظلَّ الجوع جزءا لا يتجزأ من السياسة منذ ذلك الحين. ولكن إذا أصبح الجوع استعارة عالميّة لمحنة المحرومين، فإن روح عصرنا حولتها إلى استعارة ملوّنة تزفر غضبًا بصورة يوميَّة.

مايكل شولمان :كاتب وطبيب مختص في علم النفس السريري في جامعة بنسلفانيا.
المصدر: مجلة هكتوين لبحوث العلوم الإنسانية الطبية/ شيكاغو