قراءةٌ للبُنى الناطقة في الشعريَّة العربيَّة
د. سمير خليل
يظل مفهوم الشعرية والإبداع الشعري فضاءً يستقطب الدارسين والنقاد للبحث في مظاهره وخصائصه الجماليّة والإيقاعيّة بوصفه مجالا قابلا لديمومة الاستنطاق وتعددية القراءة واختلاف المناهج للكشف عن أسراره وقوانينه وتمثلات الابتكار والسطوع فيه. انطلاقا من هذا التوجّه يأتي كتاب الدكتور إياد عبد الودود الحمداني الموسوم بـ (البنى الناطقة: تطبيقات في الشعرية العربيّة ومظاهرها الأسلوبيّة)، إضافة متميزة ورصينة للغوص في تحليل عناصر الشعرية، ومكوناتها وتمثلاتها الأسلوبيّة باعتبار أن مفهوم الشعرية هو مفهوم جمالي متحرّك ينتج خصائصه على شكل ظواهر أسلوبيّة وبلاغيّة وإيقاعيّة، ولا يمكن التيقن من هذا التوجّه إلا بالكشف عن قوانين الإبداع والتوهج الذي يعد سمة دالة على النصوص التي تشكل أمثولة يمكن التصدي لها لتكوين رؤية نقدية (ابستمولوجية) سواء أكانت هذه النصوص ضاربة في القدم أم هي تجارب تأطرت بما أحدثته موجات التنوير والحداثة، والتأثير بحركيّة الإبداع في العصر الحديث.
ولعلّ المزيّة الدالة لهذه الدراسة الرصينة أنّها تناولت العينات الإجرائيّة وفق جدل استنطاقي وبأدوات وأساليب جديدة واستقصائيّة ولم تقتصر على تناول القديم أو الحديث من منظور أحادي بل انطلقت باتّجاه التناول لكلا النتاجين بانتقاء النماذج الدالّة للكشف عن هذا الجدل والصياغة الجماليّة التي ارتكزت على صيرورة الشعريّة التي تتناغم وتبتكر رؤاها مع حركيّة التطوّر الأدبي والفكري، ليثبت الباحث - الناقد - بأنَّ الشعريّة مفهوم جمالي متحرّك لا يرتبط أو يقتصر على مرحلة من دون أخرى إلى جانب التركيز على (البنى الناطقة) والعناصر التي تمثّل الدال على وجود هذه المظاهر، والانبثاقات داخل النص وعلى مستوى الأنساق المكوّنة لخطاب الشعريّة المتوالدة.
يحسب لهذه الإضافة الإبداعيّة الجماليّة النقديّة والبحثيّة أنَّ الباحث لم يكتفِ في التصدّي لهذه الظاهرة وتمثّلاتها من منظور التنظير والتقعيد والاستشراف المحض بل سعى وعمد إلى استحضار النماذج المنتقاة وفق اشتغال تطبيقي ليخلق توازنًا قصديًّا بين التنظير والتطبيق ويكون الدرس الاستقصائي، يسعى لاكتمال طرف المعادلة، وهذا هو أحد خصائص الأسلوب العلمي الأكاديمي التحليلي الذي يعكس القدرة على رصد الظواهر، ومن ثمّ العمل على تحليلها واستخلاص سماتها وخصائصها ودلالاتها، وتميّز هذا الجهد بوجود المعطيات الاستقصائيّة، والدراسة النقديّة المقترنة بانتقاء وتوافر النماذج التي تستجيب لهذا المنظور (الابيستمولوجي) الجمالي الذي وسم روح الدراسة وإجراءاتها الموفّقة، ممّا أكسب هذا السعي الاستثنائي والمميز بقدرة الباحث على الاستدلال والاستحضار المرتكز على الموضوعيّة والعلميّة، والقدرة على الالتقاط حين استهلّ الدراسة بالعودة إلى النصّ القرآني في رصد مفهوم الشعريّة وخصائصها للكشف عن الإعجاز بوساطة رصد البنى الجماليّة والأسلوبيّة منطلقًا من التلازم بين مفهوم وتمثّلات الشعريّة وارتباطها بالظواهر الأسلوبيّة ليؤكد أن الشعريّة ليست حصرًا على الشعر ولا على زمن محدد هي لصيق الإبداع الأدبي.
إنَّ هذا الاشتغال النقدي (الابستمولوجي) استطاع أن يقدّم رؤية استكسافيّة (اركيولوجيّة) لمفهوم ودلالات وديناميّة (الشعريّة) قديمًا وحديثًا، وتضمّنت تلك الاستراتيجية التوصّل إلى أن مفهوم الشعريّة لا يرتبط بالشعر فحسب بل هي خطاب يتوافر في غير الشعر - كما ألمحنا - إذا توافرت فيه عناصر الشعر من إيقاع دلالة وأداء أسلوبي، وهذا ما تضمره مساعيه في استقصاء الإعجاز في النص القرآني، فإنَّ تناول عينات منه تدلّ على مركزيّة هذا الأثر على مستوى الاحتفاء التقديسي او الاحتفاء الفكري والجمالي لتأسيس شعريّة محلّقة ومؤثرة.
وانطلاقًا من دراسة عيّنات من القرآن الكريم على أساس أن البحث في الشعريّة تطبيقيًا إنّما هو بحث في الإعجاز الأسلوبي، فالقرآن أصل مهم تشكّل في ذاكرتنا الإبداعيّة الجمعيّة مع الموروث الشعري والنثري، وكنّا نتمنّى -وليس اعتراضًا على منهج الدراسة- أن يتوجّه الباحث إلى الاستهلال بدراسة مفهوم الشعريّة وتحوّلاتها التاريخيّة والنوعيّة، وخصائصها ودلالاتها على مستوى الأنساق النصّيّة والمظاهر الأسلوبيّة قبل التصدّي لمسألة واستحضار معناها وجوهرها في النصوص الإجرائيّة، وكان من المنطقي بل من طبيعة الاشتغال البحثي والنقدي وتمركزاته أن يكون العنوان مرتبطًا ومستعيرًا لمصطلح الشعريّة، فذلك أكثر دقّة ودلالة من مصطلح (البنى الناطقة) وأن لا يوضع مصطلح (الشعريّة) كعنوان فرعي ويقع في منظومة (شرح العنوان) كما جاء على غلاف الكتاب، ولعلّ هذه الملاحظة لا تتعارض مع منهجيّة أو فرضيّة البحث، إذ تنطلق الدراسة بعد دراسة العيّنات القرآنيّة إلى دراسة مظاهر ودلالات الشعريّة العربيّة في النصوص التي ينطلق منها، «فلا نجد إشارة مقحمة إلى ما حول النص في كتب البلاغة والنقد القديمة، أهمّها: شكل القرآن لابن قتيبة، وقواعد الشعر لثعلب، والبديع لابن المعتز، والموازنة للآمدي والوساطة لعبد العزيز الجرجاني، والعمدة لابن رشيق ومفتاح العلوم للسكاكي... غيرها»، ويقدّم بذلك القرينة على تجذّر الدراسات النسقيّة في الموروث النقدي العربي والاهتمام بالظواهر الأسلوبيّة التي تمثّل جانبًا مؤسسًا لظاهرة أو مفهوم (الشعريّة).
وارتكز اشتغال الدكتور على الرؤية الأسلوبيّة لا سيما في الجانب التطبيقي وتناول سورة الضحى أنموذجًا تستحق الدراسة والكشف عن دلالاتها البلاغيّة، وأسرار تشكّل النسق النصّي مع الدلالة المعرفيّة، فهو يجد في هذه السورة بوصفها أنموذجًا دالًا، «النمو التتابعي للألفاظ الذي يرتبط بعدد المقاطع الصوتيّة في كلِّ آية من آيات السورة، ويُعدُّ هذا البناء المقطعي (التتابعي) في مستهل السورة خصيصة أسلوبيَّة تميّز سورة (الضحى)».
ويؤشر ظهور أربعة أنواع من المقاطع: المقطع القصير المفتوح، والمقطع المتوسط المغلق، والمقطع المتوسط المفتوح، والمقطع الطويل المغلق، وتتابع هذه المقاطع يؤدي إلى تشكيل إيقاعي يسهم في تحقيق التناغم الموسيقي وتعدّد مستوياته وتحوّلاته وبما يحقق امتدادًا ونسقًا إيقاعيًا ومنطقيًا بحسب تلازم اللّفظ والمعنى، والإيقاع والدلالة، عبر هذه الرؤية التحليليّة يستغرق الباحث في تحليل وتفكيك هذه السورة بشكل مستفيض ومتكامل لكلّ مقاطعها مقطعًا مقطعًا، ولفظًا لفظًا، مما جعلها سورة امتلكت خصائص التأثير على مستوى التلقّي، «فهي تتناول الرسول (6)، وما أعطاه الله من فضل في الدنيا والآخرة، ومدة الإيقاع التي تشير إليها تؤثّر (فسيولوجيًا) في القارئ، بسبب آليّة النطق التي تستند إليها، فيُحبس النفس عند النطق بها، ثم يُطلق، محدثًا أثرًا مغايرًا يسهم في إذكاء انتظار المتلقي”، وقد أجاد الدكتور التعمق في دراسة أنساق هذه السورة المؤثرة متحدثًا عن (العلاقات الشكليّة والبناء النحوي) و(لام القسم) و(حذف الكاف) و(مظاهر المطابقة والمقابلة)، منطلقًا من أنَّ “الاهتمام بدراسة العلاقات الشكليّة في البناء النحوي يقع في صميم الإبداع الأسلوبي الذي نبحث فيه”.
قدّم الباحث دراسة معمّقة حقًا للأداءات التعبيريّة والأسلوبيّة وكشوفات رصينة حول هذه السورة الكريمة، وتناول بعدها رصدًا لسانيًا لما يسهم في تشكيل (الشعريّة) وأدائها الجمالي بعنوان موسوم بـ (شعريّة التثنية في اللّغة الإبداعيّة العربيّة)، وكنّا نتمنّى الاستغناء عن مفردة (الإبداعيّة) ليكون التعبير أكثر دقة، إذ ربط بشكل موضوعي ومتقدّم بين الأداء اللّغوي والأداء الأسلوبي باعتبار أنَّ اللّغة هي أساس التأسيس ومصدر الظواهر الأدائيّة فضلًا عن ارتباط ذلك بمفهوم (الشعريّة): “فأغلب توجّهات الشعريّة في مفهومها الحديث تقوم على الرصد اللّغوي والابتكار الذي يحقّقه الإبداع في العمل الأدبي نفسه، بل إنَّ هذه التوجّهات يمكننا الإفادة منها لرصد أنماط من الإعجاز القرآني أيضًا”.
ويورد بعدها نماذج وعيّنات تعكس جمالية توظيف التثنية في النص القرآني وغيره من النصوص، وإن وجود المثنى في السياق يمنح النص أثرًا وخصيصة أسلوبيّة من خلال دلالته ومبناه وما يحدثه من أثر إيقاعي فضلًا عن أنَّ توظيف التثنية يتطلب قدرة على التوظيف والإشارة مما يمنح النص بعدًا جماليًا وإيقاعيًا ودلاليًا.
وهذا الرصد منح الدراسة تناول ظاهرة مهمّة من ظواهر الأداء التعبيري واللّساني وبما ينعكس على العلاقة بين (الفيلولوجيا) والفضاء الدلالي والأسلوب ومفهوم (الشعريّة) “فهو يسهم في الشعريّة بوضوح إذ إنَّ المثنّى من لطائف العربيّة وحسن بيانها وله الشعر من الرنّة ما يستهوي الفؤاد.. لا سيما عند التعامل معها خارج حدود الحقيقة التي تقصدها، وحمل المثنّى على الحقيقة هو الشائع في التعبير، أمّا حمله على المجاز فهو وارد كأنْ يخاطب الواحد خطاب الاثنين أو التعبير عن الاثنين والاثنتين بلفظ الجمع أو التعبير عن الجمع بلفظ الاثنين أو التعبير عن الواحد بلفظ الاثنين”. ويتعمّق الدكتور إياد في دراسة تاريخيّة ولغويّة مستعيناً بنماذج ونصوص منتقاة للتدليل على جمالية توظيف (التثنية) ممّا ينعكس على الأداء التعبيري شعرًا ونثرًا ويتعمّق بدراسة هذه الظاهرة من حيث التشكّل (الفيلولوجي) والتركيبي، ولم تقتصر عيّناته على النصوص والشواهد القديمة بل تتطرّق وتتبع وجودها في نصوص المحدثين كشعر السيّاب والجواهري مع نصوص من الموروث الشعري لا سيما القصيدة المهمّة والمؤثّرة (يا عاقد الحاجبين) للشاعر الأخطل الصغير، درس هيمنة التثنية في بنيتها الشعريّة بذكاء واضح.
ولعلّ جماليّة هذه الدراسة تكمن بالربط بين هذا التوظيف وأثره السايكولوجي لا سيما في هيمنة التثنية في مشهد الانهيار النفسي في قصيدة السيّاب (غريب على الخليج) “في قول السيّاب الآتي تظهر التثنية بطريقة تتكشف عندها بؤرة المعنى الذي يحيل على الانهيار النفسي لذات الشاعر المشكّلة في بنية المشهد، نجتزئ الآتي: تهتزّ في رئتين يرقص/ فيهما شبح الزوال.
ونلحظ في عنوان آخر مهم فيه جهد نقدي وتحليل تناول فيه (مظاهر الشعريّة في الايقاعات العروضيّة) إذ نلحظ دراسة تخصّصيّة تليق بعقليته التحليليّة ودالة للربط بين البنى الإيقاعيّة والدلالة التعبيريّة وتحقيق التحليق في شعريّة مؤثرة تنطلق من موسيقى الشعر وانبثاق الصورة والإيحاء والدلالة الكامنة، يقول: “أصبح من المهم القول إنَّ الإيقاعات العروضيّة وما يرتبط بها من أنساق صوتيّة وموسيقيّة ذات فاعليّة في الرصد الأسلوبي يسهم في إظهار الشعريّة”.
وقد لا نستطيع تناول تفصيلات الكتاب بأكمله لسعته وتعدّد فصوله، لذا اكتفينا بهذه القراءة الاستشرافيّة المختزلة وربّما المخلّة، ومما تجدر الإشارة إليه أنَّ الباحث قدّم مزاوجة فيها كثير من البراعة والموضوعيّة والفهم النقدي بوساطة التآصر والتشارك على مستوى الإفادة من الموروث النقدي العربي القديم وبين كشوفات ومعطيات المنهجيّات الحديثة والفكر الحداثي.
أهم الظواهر التي تعمّق في دراستها واستقصائها الدكتور إياد بروح النقد الجمالي الابستيمولوجي، تقدّم رؤى مفاهيميّة تؤسّس لاستراتيجيات الصياغة التعبيريّة التي تسهم في وجود تشكّلات وتمثّلات (الشعريّة) وقد توافر البحث النقدي على وجود المخططات والترسيمات والجداول التي أسهمت في تقديم معطيات استقصائيّة وعلميّة لرصد الظواهر موضع الدراسة.
وأخيرًا توافر الكتاب على تناول نماذج وعيّنات مهمّة أخرى، وبالإجمال فإنَّ هذا المنجز النقدي التحليلي قدّم رؤية متقدّمة وعلميّة أكاديميّة جادة استقصى من خلالها الناقد ظاهرة مهمّة، ومفهومًا مركزيًّا من مفاهيم الإبداع بكلِّ تمثّلاته على مستوى النثر والشعر، وقد عكس الكتاب الجهد المعرفي والقراءة الدقيقة، والإحاطة المنهجيّة التي اتّسمت بالإبداع والقدرة التحليليّة المتقدّمة.