علي فائز
يعتقد الفيلسوف الفرنسي (لوي ألتوسير) (1918 – 1990) أن الدولة يمكنها بناء الهويَّة الوطنيَّة من خلال طريقين أيديولوجيين، يتمثل الطريق الأول «بالعنف الثقافي»، والذي يتضمن (الآداب والفنون والنشيد الوطني الإعلام المدارس والجامعات)، وذلك لصهر الناس في أتونٍ مجتمعي واحد يتمثل في الدولة الوطنيَّة، أما الطريق الاخر فيتمثل «بالعنف المجرد»، الذي يضم (السجن وإصلاح الخارجين عن القانون إلى آخره من الجوانب العسكريَّة والإصلاحيَّة).
مشكلة العراق بعد 2003، تمثلت بضعف الجانب الأول، وتمظهرات هذا الضعف تتجلى من خلال وجود قوى ما قبل الدولة، التي أصبحت تشارك الدولة مهامها.
فضلًا عن وجود ظاهرة السلاح المنفلت وعمليات الاغتيال والخطف والإفلات من العقاب.
أما الجانب الآخر فقد أهمل تمامًا، وفي ظل ذلك من المتعسر بناء وطنيَّة جامعة، وبهذا الصدد، يقول الدكتور (عامر حسن فياض): «إنَّ العراق يشكو من قلة العراقيين» وهو يقصد ضعف ولاء العراقيين للدولة، ولعل مقولته هذه هي رجع صدى لما قاله الملك فيصل الأول: «ليس هناك شعبٌ عراقي، بل كتلةٌ متنافرةٌ من البشر، مجردة من أي فكرةٍ وطنيَّة غارقة في الخرافة والجهل وتفتقر إلى أي رابطة مشتركة». مما يفسر أن مشكلة الهويَّة الوطنيَّة، رافقت النظام السياسي منذ تشكله عام 1920 إلى يومنا هذا.
إنَّ أزمة الهويَّة في العراق تنبثق من عدة عوامل، فعلى صعيد الدستور العراقي الدائم نراه قد كرر استخدام مفهوم (المكوّنات) في أكثر من موضع، بعيدًا عن مبدأ المواطنة وترجيح مبدأ المحاصصة.
فعلى سبيل المثال تنص المادة (9) أولًا- أ: «إنَّ القوات المسلحة والأجهزة الأمنية تتكون من مكونات الشعب العراقي» وتكررت هذه المفردة في المادة (12) أولًا: «ينظم بقانون علم العراق وشعاره ونشيده الوطني بما يرمز إلى مكونات الشعب العراقي»، وفي المادة (125) نجد تكريس المحاصصة في الحقوق السياسيَّة بدلًا من حقوق المواطنة اذ نصت المادة: «يضمن هذا الدستور الحقوق الإداريَّة والسياسيَّة أو الثقافيَّة والتعليميَّة للقوميات المختلفة مثل التركمان والكلدان وسائر المكونات الأخرى» وهكذا نجد في المادة (142) أولاً والتي تنص: يشكل مجلس النواب بداية عمله لجنة من أعضائه تكون ممثلة للمكونات الرئيسة في المجتمع العراقي». وهكذا نلاحظ أن الدستور العراقي اتجه إلى بناء دولة المكونات والطوائف، بدلًا من دولة المواطنة واتجه أيضًا إلى تذويب الفرد داخل الجماعة، بينما الديمقراطيَّة والفكر الليبرالي يشيران إلى أن الفرد أساس الجماعة والمجتمع وأساس الدولة، اذ يشير الدستور العراقي إلى أن «الأسرة أساس المجتمع» ومادة أخرى تحتوي على تناقضٍ فج تشير بين (تعزيز دور مؤسسات المجتمع المدني) و (النهوض بالقبائل والعشائر العراقية).
أما على صعيد التيارات والأحزاب السياسيَّة، فنلاحظ غياب مشروع بناء الدولة الوطنيَّة، فهي ليست لديها أيديولوجيَّة واضحة المعالم، وغالبًا ما تسلك الطرق الهلاميَّة، فهذه الجماعات تتوسل القبيلة وتوظف النص الديني والطقوس كعامل دمجٍ وتمييزٍ لجماهيرها.
وذلك لكون أغلبها من خلفيات إسلاميَّة أصوليَّة لا تتوافق مع الديمقراطيَّة والفكر الليبرالي، الأمر الذي جعل هذه الأحزاب تتناقض في مواقفها مع الديمقراطيَّة، فهم ديمقراطيون وقت الوصول إلى سدة الحكم، وإسلاميون طائفيون متعصبون وقت الأزمات، ووجودهم خارج السلطة، يصفهم الدكتور عامر حسن فياض بقوله: «إنهم يعيشون في العصر الحجري للسياسة، أي العصر الذي يعتمد على جمع قوت السياسة وليس على إنتاجها».
العامل الآخر والمهم في انبثاق الهويَّة الوطنيَّة هو التلازم بين المواطنة المتساوية والديمقراطيَّة وأسس الفكر الليبرالي، إذ يمثل حق المواطنة الأساس الوحيد لدولة الحق والقانون، لكن العراق لم يهضم إلى اليوم التجربة الديمقراطيَّة ولم يؤسس لثقافة مساهمة، فهو لم يصل إلى مرحلة (التحول الديمقراطي) فلا يزال قابعًا في مرحلة (الانتقال الديمقراطي) في ظل انهيار الطبقة الوسطى، وهيمنة النزعات الفكرية المتطرفة وكيانات ما قبل الدولة.
فوفقًا لرؤية برهان غليون فإنَّ عملية التحول الديمقراطي وبناء الدولة الأمة يتطلبان: «تطوير ثقافةٍ ديمقراطيَّة جديدة، موارد ماديَّة ومعنويَّة جديدة، وبناء قطبٍ ديمقراطيٍّ تعددي، وإصلاح المؤسسات الرسميَّة والاجتماعيَّة وبناء مقومات الاجماع الوطني».
ومما سبق يبدو أن العوامل العشائريَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة والعرقيَّة هي المؤثر الأكبر في بنية النظام السياسي العراقي بعد 2003 لذلك تكوّن لنا مجتمعًا يتسمُّ بالتعدديَّة الصراعيَّة أو السلبيَّة يقابل غياب المجتمع المدني الحديث.
وفي ظل هكذا بنيَّةٍ وواقعٍ سياسيٍّ قائمٍ على تفسير الأقليَّة والأكثريَّة على الأساس الطائفي والعرقي في سبيل إرضاء المكونات وفي ظل نخبٍ سياسيَّةٍ ليست لديها وسيلةٌ للبقاء في سدة الحكم غير الارتكاز على الخطاب الطائفي والشحن المذهبي والقومي، كيف يمكن أن تنبثق هويَّة وطنيَّة جامعة؟.
وثمة إشكالية أخرى تحول دون بزوغ الهويَّة الوطنيَّة وهي في غاية التعقيد تلك الإشكاليَّة، التي تبين العلاقة بين الهويَّة الوطنيَّة والاقتصاد السياسي للدولة، فمن المعروف أن اقتصاد العراق يصنّف ضمن الاقتصاد الريعي الذي يعتمد كليًا على القطاع النفطي، والحكومات التي تعتمد مواردها على النفط، غالبًا ما تجنح إلى الاستبداد وشخصنة السلطة؛ والسبب كونها في منأى عن الشعب في توفير مواردها (الضرائب)، وبالتالي لا تحتاج إلى الشعب في دعم قراراتها وبالتالي تنشأ ما يعرف بالزبائنيَّة السياسيَّة الولاء مقابل الوظيفة.
فالأحزاب السياسيَّة تستطيع أن تستخدم بيروقراطيتها العامة أو (كوادرها داخل الحكومة وخارجها)، كمصادر للمكاسب والفوائد لأتباعها السياسيين، وهذا ما يفرز عواقب كارثية، على قدرة الدولة وبنائها؛ فمبدأ الدولة الحديثة هو الجدارة والأهليَّة، ومبدأ الديمقراطيَّة هو المشاركة الشعبيَّة، ولكن حين يكون التوظيف مثلًا رهنًا بالتصويت لحزبٍ معينٍ ينهار مبدأ الدولة، ويفتح ذلك الباب لانهيار الدولة نفسها؛ عبر نشر الزبائنية على المستويات الحكومية
كلها.