د.جواد الزيدي
صدر مؤخراً عن دار الأديب البغداديَّة في عمان الكتاب الموسوم (محمد مهرالدين.. الإبداع المتجدد) الذي يلاحق تجربة الفنان (مهرالدين) الرسوميَّة من خلال مقدمة كتبها صاحب المجموعة، وخمسة نصوص نقديَّة أضاءها نقاد عراقيون. ومن الملفت للنظر أن الكتاب لم يتضمن منجز الفنان طوال حياته، بل تضمن مجموعة مقتناة واحدة للفنان (عبد الواحد سكران) التي يحتفظ بها، تمثل عشرات الأعمال النوعيَّة في التشييد، لإيمانه بأهميَّة (مهرالدين) الفنيَّة والتاريخيَّة في سجل الجمال العراقي، والعربي، فضلا عن كونها مثيرة للإعجاب، والدهشة، لخصوصيتها التقنيَّة التي لا تتكرر من خلال معالجة الهوامش، والحواف في اللوحة، الأمر الذي يمنحها بُعداً جمالياً، ووظيفياً يستعين بها عن الإطار.
فيما بدأت الدراسات بما عرضته مدونة الناقد صلاح عباس، الذي يعدُّ أستاذه (مهرالدين) (رائداً للحداثة في الرسم العراقي المعاصر) في ضوء صلته الوثيقة به، ومعرفته التفصيليَّة لمراحل إنجازه، مستعرضاً ما ذكرته المدونات النصيَّة عن تجربة الفنان منذ ستينيات القرن الماضي. وعلى الرغم من وفرة تلك الدراسات التي تناولت تجربته الجماليَّة، إلا أنَّ مجال البحوث والدراسات النقديَّة، والجماليَّة لم يزل متاحاً أمام القراءات الأُخرى، بما يُفضي الى تسليط الضوء على مساحاتٍ معتمة، أو مسكوتٍ عنها في تجربته. وتكمن أهميته كونه في مقدمة المحاولات المؤدية الى تدمير السياقات المعتادة في الرسم من خلال التنبه لأهميَّة المواد الخام الداخلة في بِنى الأعمال الفنيَّة، وتوظيف مواد خام بديلة، يقوم الفنان بابتكارها، أو إضافتها، بما يضمن إنتاج عملٍ فنيٍ أكثر تأثيراً، وأبلغ تعبيراً.
ويعتقد د.عاصم عبدالأمير بأنَّ لوحة (مهر الدين) تنضوي على منطق التصميم، لا منطق الرسم، لتوافرها على الأشكال الهندسيَّة (المربعات والمثلثات) وما ينتج عنهما إزاء طريقة الحذف التي يُجريها على بعض أجزائها، مبرراً ذلك بأنَّ النقد لا يستطيع تجاوز تجربته، لأنها تفتح الأبواب مُشرعةً لأسئلة، ومُراجعات، كونها تجربة تفرض إغواءاتها، بما يسمحُ لجدل الآراء أنْ يتسع، وهو الرسام الذي يمثل إحدى أهم علامات التنوير في الرسم العراقي المعاصر. كما أنها تنويعات على أزمة حضارة، وثقافة، ومجتمع، ومنها وبها استطاع تمثل هاجس التمرد بوحي ذهنيَّة تتفهم رسالة الفن، وتحافظ على نزعة الاكتمال، وقوة التخاطب، وأنها متلهفة لفكرة الانقلاب على كل ما هو غير إنساني، ويهدد الحياة، ويسوغ الاضطهاد بديلاً عن الحريَّة. هذا بعض ما كان يشغل الفنان، ويحدد معالم سيرورته كذاتٍ حديَّة، وملتزمة بقضايا الإنسان. وهنا نستطيع القول إنَّ (مهر الدين) قدم نفسه حالماً في عالمٍ لا يبدو على راحة اليد، أنَّه يواجه خراب النفس، والعالم، بوحي مخيلة صوريَّة تواشج بين التمرد، وما يُفضي إليه من التزام. ولذلك غالباً ما يميل الى عقد وفاق بين التصميم، ولا منطق الرسم، وكلاهما يشد الآخر شداً يُثري المشهديَّة الصوريَّة مع الظلال الإيجابيَّة على حيويَّة الأداء، وجمال التراكيب، ورصانتها معاً.
في حين يرى الناقد جاسم عاصي أنَّ جدار (مهر الدين) باحثٌ عن المستقرات، مُعللاً ذلك بأنَّ الجدار هو الكيفيَّة التي تتحول فيها اللوحة الى مستقرٍ خاصٍ من جهة، وثبات واجهة العرض، وقدرتها على خلق نوعٍ من جدل الفحص المرئي، بما يُمكن تشخيص التحولات الفنيَّة والموضوعيَّة. لهذا فهو جدار العين والعقل الذي يرسم ويتبنى الخطاب الجمالي، فاللوحة بحد ذاتها جدارٌ يتمثل جدار الإنسان الأول. وإنَّ ما يعمل عليه الفنان في هذا الجدار هو نوعٌ من يقظة العقل ورصانته، ويمكن تسميته بنتاج العقل المتيقظ، فهو يؤكد على جعل العمق جزءاً لا يتجزأ من السطح، والمقصود هنا مكونات اللوحة في ما يظهره السطح، وما يخصه عمقها الذاتي من دلالة. ويحيل خطاب (مهرالدين) الى بِنْية المجرد، وألفة القوى المتنازعة، بوصفه فناناً يمتلك رؤية نقديَّة ومعرفيَّة تتخذ من الشك والحدس أساساً في تصوير موضوعاته الناجمة عن مقاربات اجتماعيَّة وسياسيَّة تجتمع في خطابه الباحث عن جوهر الأشياء، التي يجدها في الشكل الهندسي والحروف العربيَّة والانكليزيَّة والشخبطات التي تخالف التجنيس ضمن صياغة فنيَّة محددة، بيد أنَّها تلتقي في المرامي والأهداف التي يتقصدها الفنان، ويصطفُّ معها في الجهة ذاتها، بما لا يحدث فجوة، أو اغتراباً بينهما، على الرغم من اغترابه الروحي الذي عبَّرَ عنه ذات مرة في معرضه الموسوم (غريب هذا العالم)، وإنَّ تجربته الحياتيَّة التي تتسم بالاختلاف ألقت بظلالها على خطابه الفني، وعنوان ولائه لذاته، وتحقيق الألفة بين دواخله النابعة من ذات مفكرة، وعارفة، وبين الخارج الملبد بالخطايا.
ويعتقد الناقد خالد خضير الصالحي بأنَّ فاعليَّة المادة، وصرامة المخططات الأوليَّة هي التي اتسمت بها لوحة (مهرالدين) يرى فيه أنَّ تجربته مرت بست مراحل أُسلوبيَّة، وهي تطوير للأسلوب نفسه، حيث أدخل الكرافيك، والكولاج في الرسم، وهناك من يرى أنَّ ما يميز الفنان هو (الموقف، والأُسلوب، والتقنيَّة)، وليس الأُسلوب، أو التقنيَّة وحدها، وأنَّ أرفع خصائصه يكون معنياً بالحفر في عمق الوجود، وعمق الكون، وأعماق المادة، حيث ينبثق الشكل من عمق المادة. ويسجل المضمون التراكمي للألوان بدل (الفعل التعروي)، أو ما يطلق عليه (آل سعيد) بـ (التعاملات المحيطيَّة للطبيعة، قوى الكثافة والسيولة، والهبوب، والاختراق) على سطح اللوحة.