بغداد: غيداء البياتي

هي ليست عادية أبدا، وليست كغيرها من النساء الكبيرات في السن اللواتي رأيتهن في بلدي أو غيره، فهي مختلفة عنهن دون أدنى شك؛ بسمة الحزن التي ترتسم على شفتيها ونظراتها الشاردة اجتذبت كل اهتمامي، كما أن طريقة حديثها وتعاملها مع زبائن محلها البسيط، الذي يحتوي على مجموعة كبيرة من الحلي المطلية والفضية والمزكرشة «الناعمة والمتدلية» اثارت فضولي، إنها أم عبدالله «57» عاما تعمل بجدٍ وتثابر في مكان رزقها الوحيد الواقع بأحد الأزقة الشعبية في منطقة السفينة بالأعظمية
هذه المرأة رأيتها تكبر عمرها بكثير، كونها أصبحت فجأة مسؤولة عن إعالة أسرتها المتكوةه من أربعة أولاد، بعد أن غدر بها الزمن وأخذ منها الزوج المعيل، فترملت واستشهد ابنها على حين غفلة فثكلت. .
أم عبدالله مؤمنة بأنها قادرة على مسايرة الزمن والأيام الصعبة، فقد قالت لـ» صفحة الأسرة والمجتمع «:» لا يمكن للمرأة أن تنكسر طالما أنها مؤمنة بالله، فالذي شرعته لها السماء لا يمكن لشرائح الأرض أن تسلبها منها مهما قست، فهي قادرة على أن تعمل وتثابر بشرف وعزة نفس، حتى تصل إلى بر الأمان؛ قصصٌ كثيرة مرّت بيَّ في هذه الحياة القاسيَّة لا يمكن سردها خلال وقت قصير، لكن أصعبها هو ابني المصاب بالتوحد، والآخر الذي استشهد منذ خمسة عشر عاما، وأنا أسعى لغاية الآن للحصول على حقوقه الضائعة المتمثلة بقطعة أرض، أو ما يعوّض عنها ما بين دوائرعدة، منها مؤسسة الشهداء والجرحى «فالداخل إليها مفقود والخارج منها مولود»، مثلما يقول المثل على الأماكن التي يضيع بها الإنسان نفسه».

مشروعٌ يحفظ ماء الوجه
 مسترسلة حديثها لم أنتظر يوما مساعدة أحدهم لأعيل أولادي، فبعد أن فقدت زوجي واستشهد ابني أخذت على عاتقي إعالة ما تبقى من العائلة، فصرت الأب والأم والأخ لهم؛ عملت في مجالات مختلفة، حتى وصلت إلى هذا العمل المتعب والممتع في الوقت ذاته، بدأت بصندوق للإكسسوارات الأوروبية متوسط الحجم اقتنيته من خلال التصفح في برنامج الانستجرام، بمساعدة زوجة ابني، فكان المبلغ بسيطا لا يتجاوز الـ» 50» ألف دينار، حيث فوجئت بوجود حلي فضية جميلة عرضتها على بنات الأقارب والجيران للبيع بشكل مفرد، فحصلت على مبلغ مضاعف، من هنا بدأت الفكرة بمشروع صغير يحفظ ماء وجهي، فصرت أحصل على صناديق الحلي وأبيعها في المنزل، فصار لدي مبلغٌ يؤمّن لي إيجار محل صغير بمنطقتي، ليتسنى لي التجارة بتلك الموديلات الأوروبية والخليجية، من خلال عرضها للزبائن، والحمد لله منذ فترة وأنا لديَّ زبونات من مناطق مختلفة، وصرت أبيعهن بالجملة والمفرد».

ورشة تصليح الحلي
بأناملها الناعمة تصلح هذه الخمسينية ما ينقطع من عقد أو ينكسر من الخواتم والحلق، فأم عبدالله أشارت إلى ما يكون متعبا في مهنتها هذه، حيث قالت :» أكثر ما يتعبني هو وصول البضاعة للمحل، فالصناديق تكون ثقيلة لا يمكن لمرأة بعمري حملها، ما يضطرني لأن أطلب المساعدة من أحد المارة، ونقلها من منطقة الشواكة إلى السفينة، حيث مكان العمل، فالشركة لديها توصيل لهذه المنطقة فقط، والمتعب أكثر هو فرز الحلي، لأن أكثرها تكون متشابكة يصعب حلها، كما أن هنالك قلائد تكون متقطعة أضطر لأن أصلحها بنفسي، فصار المحل أشبه بورشة لتصليح الحلي أيضا، وكي لا تكون الخسائر كبيرة أقوم بتحوير بعض الإكسسوارات التالفة، واجعل منها قطعًا مميزة، من خلال تنسيق الأحجار والخرز في عقد طويل أو وضع حجر جميل لحلق مكسور في سلسلة، وهكذا بالنسبة للخواتم والأساور وأطواق الشعر».
أما عن الإزعاجات التي تواجهها في هذا العمل فتقول:» طريقة إطلاع الزبونة على الحلي، فبعضهن يعبثن بشكلٍ غير لائق بما معروض، فتتشابك القلائد وتنكسر بعض الخواتم، من خلال التقليب المستمر، والمزعج أكثر خروج الزبونة من دون أن تقتني شيئا.

ما يفرح
وعن أكثر الأشياء المفرحة في تلك المهنة قالت أم عبدالله :» وجود بعض القطع الذهبيَّة من عيارالـ» 21 و22» وأخرى من الفضة الخالصة، التي تكون مختومة بـ» 925» من أحسن أنواع الفضة، أيضا وجود حلي تحتوي على الأحجار الكريمة، التي تكون باهظة الثمن، وهذه القطع أعرف قيمتها، بعد أن أعرضها على صائغ، يكون بخبرة عالية بالأحجار وقيمتها، ففرحي بالعثور على هذه القطع في بعض الصناديق لا توصف، ومن خلالها أستطيع أن أسدد بعض الديون وأؤمن إيجار المحل» .
هذه الناعمة استطاعت بمشروعها الصغير أن تشكل لوحة رائعة عنوانها الجمال، وإطارها الأمل بغدٍ أفضل لكل النسوة، ودعت من قلبها إلى الله أن تغادر المرأة العراقية مرحلة التمني وتصل لمبتغاها في حياة مستقرة، فهي ترى أنه حقها المشروع».