نصير فليح
مع حلول شهر رمضان المبارك، يصوم المئات من الملايين من البشر على امتداد كوكبنا. وغنيّ عن القول ان الحكمة وراء الصوم معروفة على نطاق واسع، وهذا ما يدفعنا للتساؤل عن إمكانية تفعيل هذه المناسبة - فضلا عن كل المناسبات الدينية الاخرى في الديانات الابراهيمية او سواها - في ما يتعلق بسؤال التقدم الاخلاقي للإنسان، الذي كان ركنا اساسيا في فكرة العبادات، فضلاً عن ظهور الأديان نفسها.
إن تحول المغزى في مختلف الأديان الى مجرد شعائر وممارسات منفصلة عن البعد الاخلاقي الاجتماعي، أمر مناهض للفكرة الأساسية فيها. فنحن عرفنا ان السيد المسيح مثلاً خرج من بين اليهود الذين اعتقد انهم حولوا جوهر الدين الى طقوس وشعائر لا غير، والرسول الكريم خرج من وسط قومه وعباداتهم، للانتقال بما هو روحاني الى أفق أوسع ومجتمع أكثر عدالة.
وكما يجري دائما، فعندما تتدهور الأمم والحضارات، وتتبدد الروح والحماسة التجديدية الأخلاقية، فإن ما يتبقى هياكل جامدة من وصايا منفصلة عن الحياة، ليصبح الوعظ العقيم تعبيراً عن غياب هذه العلاقة الحيوية بين العمق الاخلاقي والدور الاجتماعي.
ان التحول الى المغزى الاخلاقي أمر لا غنى عنه للأمم والشعوب والحضارات اذا ارادت فعلاً النهوض وتدارك احوالها، وإذا ارادت الانتقال الى حال جديدة أول ما يتم فيها بناء الانسان نفسه. وصوم الملايين من الناس على امتداد الكوكب، عندما يقترن بحركية اجتماعية ناهضة متقدمة، سياخذ حتما بتركيز المعنى والمغزى
الاخلاقي.
لنتخيل للحظة مجتمعات على امتداد الارض، تمتلك زمام تحولها الايجابي ماديا وروحيا، وكيف ستكون مناسبة كهذه فيها، واي ممارسات فعلية ستقترن بها. شهر يتم فيه الارتقاء اخلاقيا في التعامل بين الناس، النأي عن التحايل والمال السحت، مساعدة المعوزين على نطاق واسع، وترسيخ الوحدة والتضامن الاجتماعي. شهر كهذا سيكون درسا اخلاقيا رفيعا، يجعل العودة الى تلك الممارسات القاصرة اخلاقيا امرا صعبا اذا ما انتهت ايامه، وقد مر على الناس بكل عبره ودروسه، لا مجرد الامتناع عن الطعام وحساب الساعات للوصول الى ساعة الغروب، ثم الاقبال على كل ما تم الامتناع عنه تحت ضوء النهار.
غير ان تحولا نوعيا كهذا يرتبط بطبيعة المجتمعات نفسها، والسؤال فيما اذا كانت تعيش حركة ناهضة اصلا، ارتقاء فعلياً، ام لا. فكل تقدم للبشر على المستوى الاخلاقي يقترن دائما بالتركيز على جواهر الامور لا ظواهرها. وفي عالمنا العربي والاسلامي، الذي يعيش كل هذا الاضطراب والتدهور والتأخر، سيظل شهر رمضان نفسه مقيدا بجمود المجتمعات وسكونيتها وركودها، ليتجدد معناه نفسه ذات يوم، كما يتجدد الربيع كل عام، متى ما اقترن بالحياة والازدهار وخضرة النفوس والضمائر، لمئات الملايين
من البشر.