القلق من وجهة نظر وجوديَّة

منصة 2023/10/10
...

  حيدر عبد السادة جودة

ذاع صيت (مدرسة التحليل النفسي) ورائدها الطبيب النمساوي (سجموند فرويد) في نوعية الموضوعات، التي دار حولها البحث والاهتمام، فموضوعات من أمثال: الجنس، الأحلام، تحليل بنية الشخصيَّة الإنسانيَّة، ذات تماس مباشر وقوي وفعال بالنسبة لطبيعة الجنس البشري. ويعد (القلق) من أهم الموضوعات الرئيسة، التي ناقشها فرويد وأولى له اهتماماً بالغاً.
ففي كتابه عن (الكف والعرض والقلق)، المنشور لأول مرة في فيينا عام (1926)، انهمك فرويد بدراسة ظاهرة القلق التي كان يشاهدها بوضوح في معظم حالات الأمراض العصابية التي كان يعالجها، فحاول أن يعرف سبب هذا القلق. وقد لاحظ فرويد أن القلق الذي يشاهده في مرضاه هو عبارة عن خوفٍ غامض، لكنه يختلف عن الخوف العادي، ولذلك ميّز بين نوعين من القلق: القلق الموضوعي والقلق العصابي، فبينما الأول يعود إلى خطرٍ خارجي، كالخوف من حيوان مفترس، أكد فرويد أن القلق العصابي هو خوفٌ غامضٌ غير مفهوم، ولا يستطيع الشخص الذي يشعر به أن يعرف سببه.
ونتيجةً لما تقدم، ارتبط الاهتمام بظاهرة القلق بوجهة نظر نفسية، كان سيجموند فرويد رائدها، لكن هناك من ناقش ظاهرة القلق كنوع من أنواع الانفعالات، وهي قراءة يمكن أن نعدّها من وجهة نظر فلسفية، وهي القراءة الوجوديَّة لظاهرة القلق، وهي ما نودّ أن نسلّط الضوء عليها.
يختلف الوجوديون في استعمال مفهوم القلق، فكل من كيركيجارد، وهايدغر، وسارتر، يفهم القلق على نحو مختلف، مع ذلك فهناك تقارب وثيق بينهم، وقد اعترف كل من هيدغر وسارتر بأن الفكرة مستمدة من كيركيجارد، حيث يقول هايدغر: إن من سار إلى أبعد مدى في تحليل مفهوم القلق هو سورن كيركيجارد، ويقابل سارتر بين أوصاف القلق عند كيركيجارد وهيدغر, فيقول: إنها لا تبدو لنا متناقضة، بل على العكس فكل وصف منها يتضمن الآخر. ويتفق هؤلاء الكتاب على أن القلق يكشف بطريقة خاصة عن الوضع الإنساني، فهو عند هيدغر: الطريقة الأساسية التي يجد بها المرء نفسه. ولا شك في أن النظر إلى القلق على أنه مفتاحٌ أساسيٌّ لفهم الوجود البشري ينطوي ضمناً على تلك الرؤية الوجوديَّة والفينومينولوجية للوجدان.
  وبما أن كيركيجارد هو الرائد الأول في استعمال مفهوم القلق، يتحدث (جون ماكوري) في كتابه الشهير والموسوم بـ (الوجوديَّة) عمّا يعنيه كيركيجارد بالقلق، على أن ماكوري يشير إلى أن الذي يطرحه كيركيجارد عن القلق ليس واضحاً... ويقدم كيركيجارد مفهوم القلق في سياق مناقشته لأصل الخطيئة، فما الذي يجعل الخطيئة ممكنة؟ وهي المداولة في سفر التكوين، إلا أن كيركيجارد يقدم وجهات نظر مخالفة, فيفهم منها على أنها تصف حادثة أو تطوراً في حياة الموجود البشري, وهو الانتقال من البراءة إلى الخطيئة، وحالة القلق هي التي تجعلها ممكنة. ويوصف هذا القلق بثلاثة طرق:
أ‌-    هو ملازم لحالة البراءة، ويوضح كيركيجارد ذلك بمثال، وهو الجنس أو الجانب الجسدي في الفرد، فهناك ضيق يظهر في نشاط الجسد، ومن ثم يفقد المرء البراءة ويتغير وجوده تغيراً كيفياً.
ب‌-    هو ملازم للحرية، والحرية تعني الإمكان، ويقول ماكوري في توضيح ذلك: الحرية بطبيعة ذاتها حبلى بالإمكان، وما يخبره المرء بوصفه القلق الأصلي هو تحرك الإمكان في أحشاء الحرية.
جـ- ملازمة القلق لتكوين الإنسان الخاص بوصفه جسداً ونفساً تجمعهما الروح، فطريقة تكوين الإنسان ذاتها تجعله معرضاً للتوتر، وهذا التوتر هو القلق، ومهمة الإنسان هي إنجاز مركب الجسد والنفس، وهي مهمة مشحونة بالقلق منذ بدايتها، وبهذا فالقلق خاصة تتسم بها الظاهرة البشرية، فالحيوان لا يعرف شيئاً عن القلق، لأن حياته جسدية خالصة، كذلك الملك لا يعرف شيئاً عن القلق لأن حياته عقلية خالصة، أما الإنسان، فبضوء تركيبه من الثنائية المذكورة، فهو يعيش في ظل القلق.
       أما هايدغر، فيذهب إلى أن ظاهرة القلق تقدم لنا واحدة من أبعد الإمكانات أثراً، وأعظمها أصالة في كشف الوجود. وإذا كان كيركيجارد قد ناقش مفهوم القلق من منطلق الخطيئة، فإن المنطلق الهايدغري لفهم مفهوم القلق يكمن في ما يسميه بـ السقوط، فما يحدث في حالة السقوط هو أن الموجود البشري يهرب من ذاته، فهو قد يفقد نفسه في وجود غير أصيل مع الآخر وهو ما يسمى بالـوهم، أو الاهتمام بشؤون عالم الأشياء، ومع ذلك فإن فرار المرء من ذاته يوحي هو نفسه بأن الموجود البشري قد يواجه نفسه بالفعل بطريقة ما.
       ويشير هايدغر إلى أن ما يشعر المرء إزاءه بالقلق هو شيء غير متعين تماماً، وعلى ذلك فنحن لا نعرف ما الذي يجعلنا نقلق ولسنا نستطيع أن نشير إلى شيء محدد، فما يجعل القلق ينشأ هو: لا شيء، وهو لا يوجد في مكان، ومع ذلك فهو لصيق بنا إلى حد أنه يطغي علينا ويخنقنا، وهو ليس هذا الشيء الجزئي أو ذاك، وإنما هو العالم أو الوجود في العالم، وبالتالي، فإن حالة القلق تقدم لنا شيئاً يشبه الكشف الكلي للوضع البشري.
       ويؤكد هايدغر أن في حالة القلق, تتلاشى الأشياء الموجودة في العالم, ويدرك الموجود البشري أنه لا يمكن أن يجد نفسه في العالم، فيرتد إلى نفسه في حريته الفريدة وإمكانه، فالقلق إذن، يجعل الإنسان وجهاً لوجه أمام وجوده الحر من أجل إثبات أصالة وجوده. وكما رأى كيركيجارد في القلق مدخلاً للإيمان، فكذلك يرى هايدغر في القلق جانباً إيجابياً, حيث إنه يوقظنا من أوهامنا وأماننا الزائف، ويواجه الفرد بمسؤوليته، ويدعوه لإدراك وجوده الأصيل.
 إن وصف كيركيجارد للقلق في مواجهة ما يفتقر إليه المرء يجعل منه قلقاً إزاء الحرية، أما هايدغر فهو يدرس القلق بدلاً من ذلك على أنه رهبة العدم؛ هكذا يميز سارتر بين تفسيري القلق، ولكن، هل نجح سارتر في الوصول إلى فهم مركب للرأيين السالفين؟ يجيب ماكوري عن ذلك بقوله: إن المركب الذي صاغه سارتر يقع في إطار حركة جدلية دقيقة بين الحرية والعدم, فهو يبدأ بفكرة القلق عند كيركيجارد بوصفه دوار الحرية، وليس ذلك خوفاً يقع لي من شيء يحدث خارجاً عني، بل إن القلق بالأحرى: لأنني لا أثق في نفسي، وفي ردود فعلي الخاصة.  
من هذا ينتهي سارتر إلى القول بأن الإنسان محكومٌ عليه أن يكون حراً، فليست الحرية، إذن، حرية بسيطة على الإطلاق، وإنما هي حرية يثيرها ويقيدها المسؤولية، وفي ممارستي لهذه الحرية أخبر القلق، وفي استطاعتي أن أتجنب القلق بالالتجاء إلى أنماط الفعل المتعارف عليه، أو المعايير المألوفة للقيمة، لكن الثمن الذي أدفعه هو السقوط في الإيمان السيئ، فسارتر مثل كيركيجارد وهايدغر، يرى القلق شيئاً ينبغي تحمله لا الفرار منه.