بصريَّات الشكِّ وتأويل التأويل في العرض المسرحي
فاضل سوداني
تحيلنا مسألة القراءة المعاصرة للعرض المسرحي إلى سؤال جوهري: ما هو الإبداع المسرحي الذي يجب أن نقرأه بصرياً؟، هل هو النص المسرحي أم العرض (البرفورمانس) أم بصريات سينغرافيا العرض، أم مجموع هذا كله؟، وما هي البصريات التي تخضع لتأويل التأويل اثناء تمثلها في وعي المتفرج؟.
إن تاريخ المسرح هو تاريخ العرض المسرحي والنص هو جزء من نص العرض الذي هو رؤيا بصرية ديناميكيّة، وما يؤكد هذا هو أن بداية المسرح كانت مع الاحتفالات البصرية: أي بصرية الرؤيا التي تمركزها الحركة الإيماءة، الرقص في فضاء مملوء بالرموز الطقسيّة وكان الجمهور قريباً روحيّاً منها بل مشارك فعال فيها، أين تلاشت مثل هذه البصريات لقرون حتى انتبهنا لها في نهاية القرن التاسع عشر وحتى الآن مازلنا نبحث عنها ضمن منطق غريب علينا ومن دون فهم واضح لآلياته التطبيقيّة وهو التجريب الذي يفهم بأنه التلاعب بقدسيّة المعنى الحركي للجسد وتأويلاته الابداعيّة، فضلا عن أن بداية المسرح العربي كانت أدبيّة ومازالت مما يحرم المسرح من تأويل المعنى البصري وغناء ذائقة المتفرّج.
وهذه المشكلة تدفعنا إلى القول بأنّ المسرح المعاصر يعاني من موت حقيقي يكمن في:
ـ حيثيات سوق العرض والطلب التجاري مما يؤسس المسرح التجاري المبتذل.
ـ المباشرة الواقعيّة والاعلاميّة المقيتة وسذاجة الكثير من المعالجات التي تعد خدمات إعلاميّة بصيغ مسرحيّة.
ـ هامشيّة معالجاته الآليّة لمشكلات الذات والمجتمع، والابتعاد عن جوهر المشكلة الحقيقة للإنسان.
ـ هيمنة اللغة الأدبيّة السرديّة التي يفرضها النص المسرحي المصاغ بالوسائل الأدبيّة وليس المسرحية مما يخلق نصا أدبيا مغلقا تعتمد عليه الكثير من التجارب المسرحية، ما عدا بعض الاستثناءات. إذن ما هو الحل؟، وكيف يمكن أن نتوصل إلى اقتراب معقول من روح المسرح؟ أعتقد أن هذا يكمن في أننا نتماهى مع هذه الانساق والآليات والتكرار وعدم وضوح منهجي مما يشوش التبصّر في كل شيء ويجعل الغموض في فهم العالم وما يحيطنا هو المنهج، وأهم هذا كله هو الخوف من جعل منهج الشك وتأويل التأويل مرشدا لرؤيتنا.
بصريات الشك وتأويل التأويل
مادام العقل والخيال البشري المتنور قد أنجز الكثير من مراحل التطور، مما منحنا الآن القدرة على الشك في كل شيء، بما فيه الشك في التاريخ والفكر ومرتكزات الإبداع والوعي الجمالي وجميع النظريات المغلقة، وكذلك الشك في المفاهيم جميعها سواء الكونيّة أو البيولوجيّة منها أو علاقة الذات بالأنا الأخرى. مما ركّز مفهوماً جديداً هو أن الإنسان محكوم عليه بالحريّة وهو سيد عالمه وذاته، وكذلك فإنّ الخطوات المهمة الأولى لمرحلة الشك في الوعي الإنساني ذاته قد أُنجزت أيضا عندما بدأ فلاسفة الشك، الشك في جميع المفاهيم السابقة ووضعوا تأويلهم الجديد لها وصاغوا مفاهيم جديدة، مما وضع البذور الأولى للحداثة وما بعدها.
وقد نشأ الفن الحداثي والمسرح بالذات في ما يتعلق بعمل الممثل وإبداعه نتيجة للشك في المفاهيم القديمة التي سبقت ستانسلافسكي (ونظريته في واقعية الفعل وديناميكيته وإعادة خلق الشخصية)، وما اكتشفه مايرهولد في بيوميكانيكا وبصريات العرض، كذلك ما قام به انتونين آرتو ومسرح القسوة الذي طالب من خلال مفاهيمه ذات الطابع الفلسفي تطوير نظرية العرض ورفض الكثير من الثرثرة في المسرح وفرض الإبداع البصري في العرض كبديل، وربط المسرح بالحلم عندما أكد بأن المسرح: هو الذي يجعلنا نحلم ونحن مستيقظون، ويكف أن يكون مسرحا، إذا تخلى عن هذه المهمة.
وكذلك مفاهيم برشت في التغريب المسرحي ونصوص صموئيل بيكيت البصرية (التي أكد فيها نظرية بصرية لكتابة ذلك النص المسرحي الذي يعد أساساً لمرتكزات النص البصري الذي نفكر به. وبالرغم من أن بيكت يكتب نصاً بصرياً يبحث من خلاله في الوجود المطلق للأشياء، إلا أنّه وضع الانسان المتورّط بوجوده في دائرة العدم، ومن هنا ينشأ جحيم العلاقة بينه والآخر، وعدم فهم العالم والأشياء المحيطة، وما رواياته أيضا إلا نصوص درامية بصرية عن الوجود والعدم، وبالرغم من كل هذا فهو يكتب نصاً مسرحياً بوسائل فلسفية وبصرية. ومع غروتوفسكي الذي بدأ بوعي بصري مكثف بحيث تحول الجسد إلى لغة من خلال (تأويل الجسد وعلاقته بالفضاء الديناميكي) بالرغم من أن مفهوم الجسد بصرياً بدأ مع تجارب مايرهولد في البيوميكانيكا وعروضه المسرحية المختلفة.
وجميع هذه التجارب فرضت وعياً حداثياً، لأنّ مبدعيها قاموا بتأويل جديد للمفاهيم السابقة واكتشفوا طرائق واساليب بصرية جديدة، مما يدفعنا إلى التأكيد بأنه من الضروري في المسرح البصري المعاصر قراءة مفاهيم ونصوص ونظريات الذين سبقونا بتأويل جديد أيضاً يعتمد منطق تأويل التأويل أو التأويل المضاعف، وهذا يفرض مهمة جديدة أمام المسرح المعاصر وهي التزام نزعتي الشك وتطوير النزعة النقديّة لجميع القيم والقوانين الفنية التي أصبحت الآن ثابتة مما عمّق سكونيتنا الابداعيّة في المسرح، وبالذات سكونيّة النصّ المسرحي الأدبي المغلق وتطوير نظرة المؤلف من أجل كتابة النصّ البصري (الذي يكتب بوسائل بصرية وليس أدبية) والذي يجب أن يكتبه مؤلفاً بصرياً ويخرجه مخرجاً بصرياً أيضاً، ومثل هذا النص بهذه الرؤيا الإخراجيّة هو فقط الذي يدخلنا جميعاً في بصريات المسرح ويدخلنا أيضا في ما يسمّى بالتجريب المسرحي.
ديناميكيَّة اللغة البصريَّة في النصّ
إذن مستقبل المسرح يكمن في خلق لغة النص والعرض البصريتين واكتشاف أسرارهما سوية مع المتفرج المتفاعل، وكذلك اهمية تلك الأسئلة التي ترفض الأجوبة الجاهزة، وتحفز على المعالجة الإنسانية الحقيقية لمشكلة الإنسان في لحظة فنائه وعدميته بالرغم من أنه يطمح للديمومة وينظر إلى مستقبل الحياة.
وفي المسرح لا يمكن أن تستقيم هذه الأسئلة إلا من خلال اللغة البصرية منذ البذرة الأولى لكتابة النص المسرحي، وهذه مشكلة جوهرية أمام المؤلف العربي الآن، بمعنى على المؤلف ألا يكتب نصه بلغة ووسائل أدبية بعيدة عن لغة ووسائل المسرح، وينتظر المخرج ويتكل عليه ليحول نصّه إلى أنساق بصرية في العرض المسرحي، وإنما على المؤلف أن يخلق النص بصرياً باعتباره مؤلفاً يمتلك رؤيا مسرحية مشبعة بوعي رؤيوي. ولكن أي نص هذا الذي من المفترض أن ينبئنا بمستقبل العرض مما يؤثر على البصر والبصيرة؟.
يرتكز هذا النص البصري على الركائز التي يجب أن يخدم من خلالها بصريات العرض:
ـ اللغة الحوارية البصرية التي تبتعد عن السردية وتحمل دراميتها (البعد البصري والمادي للكلمة وغنى دلالاتها التأويلية).
ـ لغة تداعي الأنساق البصرية في الفضاء الإبداعي أي الحوار بين ذاكرة جسد الممثل وذاكرة الأشياء مع تداعيات سينوغرافيا فضاء المسرح.
ـ وكذلك الحوار بين الفنان البصري صانع العرض ـ أي (المخرج والممثل والسينوغراف وغيرهم) مع المتفرج المتفاعل.
إن هذه الركائز البصرية والتداعيات والأنساق هي التي تعيد خلق اللغة الفنية بصريا سواء كان ذلك في النص أم في العرض، فمن خلالها يمكن أن نعيد دلالات الكلمة وتخليصها من أبعادها الأدبية السردية والحوارية إلى كينونتها التأويلية والدلالية والبصرية في زمن جديد هو زمن العرض البصري، وهذا ينطبق أيضا على الأنساق الأخرى للعرض مثل القدرات الجسدية للممثل وذاكرة الاشياء وغيرها، أي خلق كينونتهما وتداعياتهما البصرية، منذ البذرة الأولى التي تكوّن النص وتتطور بعد ذلك في العرض البصري الذي يغني أبعادها الميتافيزيقية بسبب إمكانات التأويل الابداعي التي تشع فيها.
وكل هذا يخلق ما ندعوه بميتافيزيقيا الذاكرة البصرية لجسد الممثل بعيداً عن العادات اليومية الواقعية لوظائف الجسد، وهي تعني خروج الجسد من شبكة الزمن الواقعي والتكامل في الزمن البصري المتوهج في العرض المسرحي.
والنص البصري الذي يوحي بتداعي الرؤيا الإخراجية البصرية يجب أن يسمح بمساحة إبداعية لإعادة خلق كينونة المكان الفضائي أي سينوغرافيا الفضاء البصري الذي هو زمن إبداعي مكثف في الفضاء، يمنح وجوداً جديداً ومستقلاً لذاكرة الأشياء ولجسد الممثل والانساق البصرية الابداعية الاخرى.
وهناك قضية أخرى لها علاقة بلذة النص وتذوقه الجمالي والفكري، وبالتأكيد فإن هذا شيء ضروري للنص والعرض البصري بعيداً عن سكونية النص الأدبي، فهنا يتم تذوق بصرياته من خلال مفردات النص وأنساقه التي هي ليست فقط الكلمة، وإنما تتكامل لذة النص البصرية من خلال جميع وسائل النص البصري التي مر ذكرها، فبدل الاعتماد على الكلمة فقط لتحقيق لذة النص، أصبحت الوسائل البصرية التي تعتمد على مفردات الصورة والتصور والتخيل والبعد الميتافيزيقي لذاكرة الجسد وذاكرة الأشياء في فضاء العرض وغيرها تمتلك ضروريتها، وهذه كلها فضلا عن الكلمة البصرية أصبحت هي التي تشكل لذة بصرية جديدة للقارئ أو المشاهد المتفاعل وتؤثر على جميع حواسه، وهو في محيط ديناميكيته التفاعلية عند تلقيه للنص والعرض البصري.
ولا تعني دعوتي لكتابة النص البصري إلى إلغاء الكلمة أو الوسائل اللغوية الأخرى عموماً، وإنما على العكس فإنّ الكلمة تصبح إحدى الوسائل البصرية المهمة لتحقيق النص البصري، إذا أحسن انتقاءها وأغنى معانيها، وإذا استطاع المؤلف أن يحولها من كلمة أدبيّة إلى كلمة ذات دلالات بصريّة مما يجعلها جزءاً من تحقيق الفرجة المشهديّة البصريّة في العرض. وهذا يفرض أسس كتابة النص البصري في زمن ما بعد الحداثة ويوحي مثل هذا النص، بل يفرض أيضا عرضاً بصرياً يؤدي بالممثل إلى استخدام ذاكرة جسده المبدعة وذلك من خلال ما ندعوه بالبعد الرابع للزمن والفضاء البصري في العرض المسرحي.