د. نصير جابر
تتشكّلُ الكتلة النحتيَّة بصورتها المطواعة المتكاملة الهيوليَّة في خيال النحَّات ورؤاه قبل ظهورها بشكلها المادي في فضاء الرؤية الإشهاري؛ لذا هو وحده من يحدّد -بعد ظهورها للعلن- مدى المسافة التي تفصلها عن أصلها الأوّل المتخيّل، وهل نجح هو بتكوينها كما تمنّى ورغب أم أنّها كانت مختلفة عن تجسيدها الذهني أو تجاوزت ما افترضه، تلك الخيبة أو الغبطة هي أولى مراحل العمل؛ لذا تبدو عملية النحت مرهقة جدًا، ففضلًا عن تعبها الجسدي ومشاقها المعروفة ودقتها وكونها تقترب في كثير من الأحيان من كونها حرفة يدويَّة تحتاج إلى صبر طويل ورويّة وتأمل، فهي نحت مكرّر في مواد خام قد تنفر أو تنتأ من تحت يد المشتغل بها ما لم يتوافر على خصائص وأساليب تجعلها تعطي أبجديتها لتكوّن جملا إبداعيَّة مفيدة.
ومن النحّاتين الذين تستدعي تجربتهم هذا التأمل الضروري الفنان الدؤوب والجاد ناجح أبو غنيم، المولود عام 1958، في محلة العمارة النجفيَّة والمتخرّج في معهد الفنون الجميلة منتصف الثمانينيات.
ثم أكاديمية الفنون الجميلة العام 1998، فهو أحد الأسماء التي تلفت النظر بأعمالها الرصينة التي تنتشر في ساحات النجف، إذ تقف أمام اشتغالاته الاحترافيّة التي تخاطبك بجماليات عالية، فترى جمله النحتيَّة الوارفة وهي تشتبك مع الفضاء الحاضن لها منتجة حوارها الخصب ضمن سياق اللحظة الراهنة، وسياقها التاريخي أيضًا، فهو حريصٌ على استدعاء الإشكاليين من رموز الفكر والثقافة ممّن يشكّل حضورهم الرمزي تساؤلات جديدة، ففي (الجواهري)، نلاحظ الحرص على التشابه الشكلي والفكري، فهناك الجواهري بوجه المعروف الأيقوني ووجناته البارزة وشاربه المميز وطاقيته الروسيَّة التي لازمته طوال حياته، وهناك أيضًا الجواهري الثابت الراسخ، حيث الأقدام المتينة التي تشير وتلوّح إلى مواقفه ورؤاه الحياتيَّة التي كلفته الكثير، لذا الجواهري التمثال هنا سهل معقد ومعقد سهل في تراتبيَّة تحتاج إلى تأمل لكل جزئية في النصب لكي تكتمل.
أما الشاعر والأديب (عبد المنعم الفرطوسي) فقد تجسّد في صورة حكاية متناغمة، فهو متناسق الملامح بقامة مديدة تلفّه عباءة يتلفّع بها خافيًا جسده مثلما هو يخفي معانيه الشعريَّة التي ستظل في قلب الشاعر كما تصرّح تلك الجملة الشهيرة، وناجح كثير الرجوع للشخصيات التاريخيَّة، فقد نفذ مشاريع عديدة وما تزال بعض مجسّماته الأخرى تنتظر التنفيذ، فهناك الشاعر دعبل الخزاعي، وهناك المتنبي، وأبو طالب بن عبد المطلب، والشيخ خزعل الكعبي وغيرهم
كثير.
أما أعماله الأخرى التي تميل إلى الحداثة والترميز فهي تقترب كثيرًا من الاشتغالات السرياليَّة، إذ تتوزع الكتل على وفق منطق العمل الذي يحدّده المعنى لا منطق الطبيعة المألوف، فنرى الأرجل والأيدي تتحرك وتتخذ أماكنها في فضاء الرؤية والرؤيا، هي تحتدم في صراع مع الآخر، الذي يحمل رمحًا أو عصا لينقضّ عليها، الفضاء الذي يعلبه النحت، ضاجّ بالصراخ والأصوات الأخرى التي ترافق تلك التشكيلات البشريّة المأزومة في لحظاتها الحرجة.
يمكن أن تسمعها مفترضًا الجلّاد والضحية من خلال تشكيل المعنى.
في منحوتة مميزة نرى أشلاءً بشريَّة تستنهضُ بقايا وجودها لتقوم بحركة ما، حركة تشبه تلك التي قال عنها (أندريه جيد) في (السّمفونيَّة الرّيفيَّة): (أيّتها الحياة القذرة لقد انتصرت عليَّ بكلِّ شيء.. ولكن الحركة الأخيرة ستكون من نصيبي).
فتلك الحركة الأخيرة التي يوثقها ويثبتها ناجح أبو غنيم هي الأهم والأبلغ لأنّها الأصدق، فلا مسوّغ لها ولا باعث غير إثبات إنسانيتنا.
يطعّم ناجح منحوتاته البرونزيَّة بالخشب ويحرص على الأناقة جدًا في عرضها واختيار المنصّات التي تناسبها، كذلك يهتم جدًا بزاوية الرؤية حيث تكون العين هي الفيصل في تقبّل العمل أو رفضه.