من حكايات مصنع الأكاذيب إلى قصص الفضاء الالكتروني

ثقافة 2023/10/18
...

 مفيد عيسى أحمد

يختلف الباحثون بشأن بدايات القصة القصيرة، غير أن أغلب الباحثين يتفقون على أن بداياتها قامت على الحكايات والنوادر التي كانت تروى شفاهاً، لكن تلك الحكايات والنوادر لم تقارب الشكل الفني للقصة إلا في القرن الرابع عشر، وكان ذلك في إيطاليا؛ الفاتيكان تحديداً، إذ خصصت حجرة من حجراته ليتردد إليها بعض العاملين فيه، وخاصة سكرتيري البابا للهو والتسلية.  في تلك الحجرة كان يخترع المترددون الأخبار والنوادر الطريفة عن رجال ونساء إيطاليا، دعيت «الفاشيتيا» ووصل الأمر إلى البابا نفسه، تلك الحجرة سميت «مصنع الأكاذيب»، وقد جذبت تلك الحجرة وما كان يدور فيها جمهوراً كبيراً يمكن اعتباره أول متلقي القصة القصيرة رغم  أنه هذا التلقي كان شفاهاً، أي لم يكن هناك نص مكتوب، هذا النمط من التلقي كان يتطلب حضور المتلقي شخصياً إلى تلك الحجرة، أو سما القصة «تلقيها» نقلا.

جاءت الخطوة الثانية في إيطالياً أيضاً، وفي القرن الرابع عشر أيضاً، ذاك مع جيوفاني بوكاتشيو، في هذه الخطوة اقتربت القصة أكثر من الشكل الفني المعروف لها، صارت أكثر طولاً وببنية فنية أفضل وأخذت اسم «النوفيلا»، اتضح ذلك في قصص «الديكاميرون» تلك القصص الشهيرة التي استمرت طويلاً، وربما  إلى الآن بتأثيرها في الأدب.
طُبعت تلك القصص أول مرة عام 1471، أي بعد اختراع الطباعة بثلاثين عاماً على يد يوحنا غوتنبرغ، وبذلك خرجت حالة التلقي  إلى النص المطبوع، واتسعت هذه الدائرة بعدد أكبر من المتلقين، فقبل اختراع الطباعة كانت كل الكتب مخطوطة، تصدر بنسخ قليلة، مما يجعلها نادرة وغالية الثمن.
المرحلة المهمة في تطور القصة القصيرة كانت في القرن التاسع عشر، فقد تبلور الشكل الفني للقصة وسماتها السرديَّة، على يد «موباسان» الذي كتب قصصاً مختلفة رصد فيها أحداث الحياة العادية، وقد رأى أن القصة القصيرة معنية بحدث معين بغض النظر عمّا قبله وبعده.
وفي رأي «هولبروك جاكسون» الذي كتب مقدمة لأعمال مختارة لموباسان، إنَّ موباسان هو من قنن القصة ووضع أسسها، إلى أن  قال في تلك المقدمة: «القصة القصيرة هي موباسان وموباسان هو القصة القصيرة».
لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أن هناك من كان يعمل على ذلك أيضاً غير موباسان، وكان له تأثير كبير في القصة القصيرة وهو «أدغار آلان بو» الذي عاش بين عامي 1809 و1872 أي أنه كان معاصراً لموباسان.
 يرى بو أنَّ القصة القصيرة ليست رواية مبتورة كما كان يدعي البعض، بل هي شكل وجنس أدبي مختلف. هذا ما تأكّد فيما بعد، في سياق تطوري لهذا الفن، حيث تأصلت القصة القصيرة كفنٍّ منفصل له قواعده وسماته.
أما الناقد المجري «جورج لوكاتش» فقد قال إنَّ «القصة شكل من أشكال الملحمة الثانويّة، بينما الرواية هي ملحمة برجوازيّة»، والسؤال هنا: هل هي ملحمة ثانوية من ملحمة رئيسة هي الرواية أم هي ملحمة ثانوي مستقلة؟
على خلاف لوكاتش دعاها «فرانك أوكنور» فن الرجل الصغير على اعتبار أنّها معنية بالمهمشين، الموظفين المسحوقين عند «غوغول»، الفقراء المعدمين عند وايلد.  
لا بدَّ أن نذكر هنا «نيقولاي غوغول» الذي عاش في تلك الفترة نفسها. لم يشغل غوغول نفسه كثيراً بالتنظير للقصة لكنه كتب قصة خالدة هي «المعطف». ومع بو وموباسان وغوغول وغيرهم برزت أهمية الحامل المادي للمنجز الأدبي، ومنه القصة القصيرة، فقد أصبحت الطباعة ميسّرة، وحالة القراءة، والتلقي لها طابع آخر.
في منتصف القرن الماضي انشغل النقاد والكتاب والمهتمون بنظرية التلقي، أو بنظريات التلقي، التي تقوم كلها على علاقة المبدع بالنص والمتلقي بهذا النص وبالمبدع أيضاً، لكن الأهم هو تلك الحالة من العلاقة الإشكالية بين النص والمتلقي.
فالمنتج الأدبي لا يُعتبر مكتملاً من دون متلق، والمتلقي هنا معني بالناحية الجماليّة، أما الناحية الفنيّة فهي مسؤولية الكاتب.
هذه النظرية تقوم على أسس معروفة: القارئ والنص، التحقق والتأويل، أفق التوقعات.. المتلقي المثالي والافتراضي.
لكن في إطار هذه النظرية يبقى لكل جنس أدبي خصوصيته، والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو: هل أسهمت تلك النظريات والنقد عموماً في الارتقاء بالذائقة الفنيَّة للمتلقي؟.
أسهمت الدوريات؛ مجلات وصحف في توسيع دائرة التلقي للقصة القصيرة، حتى المتخصصة منها، فهناك مجلات مختصة بالهندسة أو بالطب مثلاً، كانت تحرص على إدراج قصة قصيرة في كل عدد من أعدادها، وكان للقصة القصيرة قرّاء أكثر من
الشعر.
لا بدَّ من الانتباه إلى أن الحامل المادي للمنتج الأدبي ترك أثراً على المتلقي بشكل أو بآخر، فقراءة القصة مطبوعة كانت تتيح للمتلقي تشكيل جوها الخاص، وذلك بناءً على مخيلته وتجربته الحياتية، هذا الأمر يطرح مسألة غاية في الأهمية وهي: هل القصة القصيرة منبريَّة؟
وهذا الأمر لم تأخذه نظرية التلقي بالحسبان.
وفي حال الجزم بأنّها منبريَّة سيعني ذلك أن طبيعة التلقي ستعود  إلى حالة الشفاهة، وعلى الكاتب أن يراعي ذلك ليصل إلى المتلقي ويبقى محافظاً على انتباهه وهو أمر صعب ويتطلّب مهارة في الإلقاء تشد المتلقي المستمع الحاضر.
النشر الالكتروني حامل جديد ساد في العقود الأخيرة، على حساب المطبوع إن كان كتباً أو مجلات، وهو ذو إمكانات تفوق مرات النشر التقليدي؛ في اتساعه وقدرته على الوصول إلى كل أصقاع الدنيا، مما يتيح للمتلقي قراءة ما يرغب به في حال امتلك التقانة الخاصة
بذلك.
هذا النشر له جوانب إيجابيَّة وأخرى سلبيَّة؛ الناحية الإيجابيَّة تتلخص في توسيع دائرة التلقي وإتاحة الفرصة للاطلاع على تجارب الآخرين. أما السلبيَّة فهي أن هذا الحامل المادي فتح المجال أمام الأعمال الهابطة فنياً، وصار لها نفس فرصة تلك ذات السوية الفنية العالية، وهذا لا بدَّ أن يؤثر بشكل أو بآخر على الذائقة وعملية التلقي، وهي الغاية من أي عمل فني وأدبي.  

المراجع:
1 - رشدي رشاد- فن القصة القصيرة – دمشق -  اتحاد الكتاب العرب.
2 - الشاروني يوسف – القصة القصيرة نظرياً و تطبيقياً – دار الهلال
3 - أوكونور فرانك – الصوت المنفرد؛ مقالات في القصة القصيرة- ترجمة دو محمد الربيعي – الهيئة العامة المصرية للكتاب- 1993.