السرد الروائي المغاير.. مغادرة أم قطيعة؟
جاسم خلف الياس
يثير السرد الروائي في مجمل تشكلاته الكتابيّة تساؤلات كثيرة، ولعل من أبرز هذه التساؤلات ما يتعلق بالسرد المغاير، وهتك اشتراطاته الفنية القارة، فهل يشكل هذا النوع من السرد مغادرة أم قطيعة مع السائد والمألوف؟ بدءاً، لا بد من الإشارة إلى أن الروائي والقارئ في مثل هذا السرد يقعان في دائرة واحدة، وكلاهما يحتاج إلى وقفة تعاين الكيفيّة التي يتشكل فيها السرد المغاير، وهو يتمسك بحيوية الرؤية وخصائصها الفعالة في تقليص المسافة بين التلويح بتمزيق الهوية الأجناسية، والاشتغال على ذائقة التعددية، فالتحرك في فضاء التجربة القرائيّة والاجتهاد في القبض على سر توهج النص يمنح المغايرة حق المغادرة، ويؤهلها للتحول المستمر في مدن الحلم والسحر.
كما يحتاج كل منهما إلى تشخيص الأنساق المغايرة وتأثيرها على هذا النوع من السرد، وكيفية مشاطرة تلك الأنساق للمتخيّل وهو يرسم الفضاء الروائي الجديد بفعل كتابي جدير بأن يشكل الشفرات السحريّة، ويولّد الإيقاعات التصويريّة الساحرة، ويشعرنا بإحساسات مؤثثة بالدهشة. سواء عبر أسطرة الواقع أو توظيف السحري بوصفه تخليقاً لظواهر غرائبيّة وعجائبيّة، أو عبر تشكيلات تعبيريّة حداثيّة وما بعد حداثية، فارقت المألوف والتقليدي بآليات أًخر لا تسلّم نفسها بسهولة، فضلا عن الفاعليّة القرائيّة الساخرة والمتهكمة من الواقعي والسطحي، في خصوصية رؤيوية وإبداعية، تعتمد على الوعي العميق للوجدانين الذاتي والجمعي.
وبعيداً عن التفاصيل التي تتعلق بمفهوم الشعريّة بوصفها (قوانين الإبداع الفني) وقريباً من المغايرات التي طرأت على السرد الروائي يمكننا القول: إنَّ الكتابة الروائية منذ رواية (مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة) التي صدرت سنة 1969 وإلى الآن تمارس ضغوطات شتى في التمرد على السائد والمألوف، ولم يستقر بحث كتابها عن أساليب المغايرة في الاشتغالين الفني والمعرفي، إذ ظلت تلك المغايرات خاضعة لآليات الاشتغال بأنواعها المتعددة، بوصف الرواية نوعاً أدبياً قلقاً في صيرورته التاريخية، وعملاً ذهنياً يبدأ بالمخيّلة ويتطور داخل فضائها، وعلى هذا الأساس فهي لعبة ذهنيّة، كما أنّها معلم حضاري وثقافي تنهض به العقول الراقية في مختلف الاشتغالات المعرفيّة، أي أنّها جهد خلّاق يرمي إلى فتح آفاق جديدة أمام الوعي البشري والخيال الإنساني، إلى الحد الذي أصبحت فيه أداة من أدوات العولمة الثقافية على رأي جيسي ماتز في كتاب (تطور الرواية الحديثة) وقد سوّغ لهذه المغايرة مسوغات عديدة، منها ما يتعلق بالواقع، وما رافقه من تغيّرات اجتماعية وسياسية وثقافية، فضلا عن التأثر بمسارات التجديد في السرد العربي والعالمي، بدءاً من السرد الرمزي، مروراً بالوجودي والرواية الجديدة وتيار الوعي، والواقعيّة السحريّة، وصولا إلى ما عليه السرد والميتا سرد في الراهن الكتابي. ومنها ما يتعلق بالذات المؤلفة، ورغبتها في الوصول إلى متغيرات جديدة في السرد، عبر تفاعل مكونات التغاير: تغاير أساليب السرد وصيغه وأنماطه، وتغاير التداخلات النوعيّة، أو التغاير في النوع ذاته. ولا يحدث هذا إلا بتضافر النزوع نحو التطور الداخلي والتغيير الفاعل من جهة، وعلاقة السياق الخارجي بالنوع الذي ينتمي إليه النص من جهة
أخرى.
لقد أخذ المسار السردي منذ النصف الثاني من القرن العشرين، يعلن عن نفسه في الواقع الأدبي في لحظة انبهار كبرى، لخصتها كشوفات الكتابة الجديدة، وهي كشوفات اتخذت صيغة انحسار مباغت لمد السرد التقليدي، في مقابل نمو وتصاعد السرد المغاير، وقد اتخذ هذا التغاير من المكون التقني مدخلاً رئيساً لإعلان انخراط الرواية في الكتابات الحداثية وما بعد الحداثية، فالمحفز الرئيس في السعي إلى تجاوز النمطية المجترة في الكتابة الروائية هو دون أدنى شك رغبة الروائي في الخروج على القوالب الجاهزة، والانزياح عن المألوف، ولهذا توسّل الروائي بالعجائبي والشعري والتداخل الأجناسي.. وغيرها للوصول إلى المتعة المغايرة.
على هذا الأساس أصبح النص الروائي نصاً إشكالياً، ينحاز إلى مبررات الانزياح عن المعيار السردي، ويبحث عن ممكنات الانفلات؟، وهنا نتساءل: هل تكمن مغايرة السرد في مجرد هدم اللغة أو تفكيك المعيار أو نسف البناء السردي للشخوص وإفراغها من عمقها السيكولوجي أو الاجتماعي؟، وما هو دور القارئ في تفعيل القراءة في مثل هذه الأنموذجات من السرد؟، وما هي رهانات الفعل القرائي المبدع؟، علما أن (فعل القراءة يؤثر ويستجيب).
لقد أخذت تحولات السرد بالتمظهر في الوجود الكتابي تبعا للتحولات الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية وغيرها، وقد دفع إحساس بعض الروائيين بوعي تجاربهم وتجارب غيرهم، إلى تجاوز التقليد الذي نمّط كتاباتهم، والسعي وراء مبتكرات فنيّة، سواء أكانت تتعارض مع مكوناتها الفنيّة، أو تتوافق معها بحدودها الدنيا. فعملوا على إزاحة الاشتراطات الفنية السائدة للرواية، واتجهوا إلى التحولات العميقة التي تنأى بها عن مشهدها التقليدي، فشكلت المتغيرات الجمالية الحاضنة الأولى للحساسية الجديدة، التي اتجهت نحو كتابة عصر متغير باجتراح جمالي متغير في الآن نفسه، وانتقلت بؤرة التعبير من الصيغ الروائية النمطية الثابتة، إلى الصيغ المغايرة، التي افترقت عن تماثلاتها السياقية التقليدية وترسباتها في ذهن القارئ، فلو تتبعنا تقانات الاشتغال السردي الحداثي وما بعد الحداثي، والمعطيات الجمالية التي رصدتها تطورات الأشكال الجديدة، وعلى هذا الأساس ظهرت تقنيات مغايرة، نتيجة التأثر بتطور تقنيات الرواية الجديدة، كما ظهرت أشكال تكاد تكون عابرة لنوعها المتعارف عليه، بسبب التداخل أو التمرد النوعي، وأصبح الروائي يكتب بتقانات تعتمد على تكسير السرد، وتشظي الأحداث، والخروج على الرتابة السردية بواسطة إدخال أساليب مختلفة من إشكال متنوعة، فأصبحت نوعاً من التغريب والتناص والتشتت، وتبعا لهذا الانفتاح ابتعدت الرواية عن مسارها المحدد، وأخذت تقترب من السرد بوصفه نوعاً كتابياً يأخذ من التلاعب بالاشتراطات الفنية المتعارف عليها في السرد (أحداث، شخوص، أمكنة، أزمنة) منطلقا لارتياد أفق السرد التجريبي. وتقترب من النص المفتوح بوصفه نوعاً أدبياً يأخذ من البناء المتداخل، والتكثيف الدلالي - وهاتان ميزتان شعريتان معروفتان في الاشتغال الشعري- منطلقا لارتياد الأفق ذاته.
وبعد التأمل الدقيق للحاجز الشفاف بين التجاوز والقطيعة يتبيّن لنا، أن لكل سرد روائي تشكيلاً لغوياً، يتراوح بين درجتي الثبات والتحول، وأن دراسة المؤشرات الدالة على هاتين الدرجتين تكشف صرامة النوع الأدبي أو هشاشته أمام التجريب والكتابة الحداثيّة، فضلا عن أنها ضرورية لكشف العلاقة بين السرد والقارئ، إذ تظل العلاقة بين قائمة بين السرد وكشوفاته المغايرة، ويبدو أنّ بعض النقاد يتعاملون بوهم كبير في حض المفاهيم النوعية على تجاوز تحديداتها الموضوعة لها، وتذبذب مصداقيتها، وفقدان هويتها لنتاج له حرية التنافذ والتواطؤ مع فكرة تعطيل الاستجابة لمتطلبات العصر. نعم هناك مسرودات سعت إلى التخلي عن المعايير القارّة إلا أنّها لم تستطع الإفلات تماما، فبقيت هناك حدود دنيا تربط تلك المسرودات بالنوع الأعلى عبر مجموعة من العناصر والتقنيات التي تظهر كلها في نص واحد أو بعضها.
ونخلص مما تقدم أنّه مهما اكتنف هذا المفهوم من تعقيد أو تشابك فهو لا يخرج عن كونه محاولة لتصنيف الإبداعات الأدبية التي تنطوي على تغايرات الأنواع وتداخلها مع بعضها أي عبور خصائص فنية من نوع إلى نوع آخر.
ومن هنا تتم مقاربة السرد المغاير بوصفه انزياحاً نوعياً يحيل في أحد مفاهيمه إلى مرونة النوع، وقدرته على الإفادة من معطيات الأنواع الأُخر، ومن تقنيات تزيده فرادة وتطورا يمثل الخطوة الأولى في المسير باتجاه المغايرة والاختلاف عن نوع روائي راسخ هو الرواية، وأننا مهما بحثنا عن النقاء النوعي لنعالجها من منظور صارم فإننا لن نستطيع المقاومة أمام هدم الفواصل بين الأنواع؛ وعليه سنبقى نبحث في دائرة النوع كثيراً، فلا وجود لانقراض تام له في هذه الحال، وستبقى تمارس آليات التغاير دورها في نقل الخصائص الفنية القديمة القابلة للتجدد إلى أنواع جديدة، ولكن هذا لا يمنع من تشخيص التقابل المعياري لما قبل وما بعد، كي نحدد هل السرد المغاير تجاوز أم قطيعة؟.