بشير خزعل
قرب مستشفى ابن رشد للأمراض النفسيّة وسط بغداد، كانت إحدى الأمهات تمسك بيد ابنها (11 عاما)، وتحاول سحبه للدخول إلى المستشفى، لكنّها لا تقوى على السيطرة عليه، فهو بصحة بدنيّة جيدة لكن قواه العقليّة باعتلال ولايفهم أي تصرّف يقوم به، وبمساعدة بعض المارة والحرس على باب المستشفى استطاعوا من حمله بالإكراه لغرض الدخول إلى المستشفى من أجل الفحص والمعاينة الطبيَّة، صبيٌّ بصحة جيدة ومشكلته عدم النطق وفرط الحركة والعبث بأثاث البيت وكسر كل ما يقع بين يديه برغم تمتعه بذكاء جيد إذا أراد أن يفعل شيئاً ما بإرادته.
أعراض غريبة
تقول السيدة هيفاء حسن 36 سنة: لم ألحظ أعراض المرض على ابني إلا بعد بلوغه الأربع سنوات، فقد كنا نظن أنه مجرد تأخر في عملية النطق، ثم تطورت أفعاله إلى قذف الأشياء السهلة الكسر مثل الهواتف والتلفاز وتحطيم الأبواب والنوافذ بطرق خفية، واللعبة الوحيدة التي يمارسها هي الدوران حول نفسه لأكثر من نصف ساعة مستمرة من دون أن يشعر بأي دوار، وعندما نحاول إخراجه للشارع يحاول أن يأخذ كل شيء موجود في الأسواق أو يمسك بالمارة بدافع الفضول للتعرّف على ردود أفعالهم، وبرغم مراجعتي للمستشفى لأكثر من سنة لكن حالته لم تتحسن ولم ألمس أي تقدم في وضعه النفسي.
توحد
مريضة أخرى بعمر 13 عاماً تعاني من كآبة حادة جعلتها منزوية أغلب الأوقات في غرفتها بعيداً عن باقي أفراد الأسرة، ثم ازدادت حالتها سوءاً بعد أن رفضت أمها عرضها على طبيب نفسي خوفاً من شيوع الخبر بين الجيران والاقرباء، حتى لا يؤثر وضعها الصحي على قسمتها في الزواج، لكن حالة سهام تطورت إلى عدوانيَّة وصراخ في بعض الأوقات بسبب تفاقم حالتها النفسيَّة التي أدت إلى أنهيارها والقاء نفسها من أعلى سلم الدار وأصيبت على اثرها بجروح خطيرة في الرأس والوجه، الأطباء شخصوا حالة المريضة على أنها مصابة بمرض التوحد الشديد.
مراكز
أغلب الأسر وأبنائهم المصابين بأمراض نفسيّة يواجهون مشكلة الخجل من مراجعة الأطباء النفسيين أو البوح عن الحالة المرضية التي يعانون منها والسؤال عن عيادات الاطباء النفسيين، في حين أن المؤسسات الصحية المعنية بالمعالجة ما زالت تفتقر إلى الاختصاصات ووسائل الطب الحديث، وعددها لا يتناسب مع حجم المرضى والمراجعين ممن يعانون من أمراض نفسية متنوعة، أما المراكز العلاجية الحكومية أو الاهلية، فالاثنان معا لا يقدمان خدمة بمستوى يؤدي إلى تحسن الحالات المصابة، الأمر الذي اضطر عائلات كثيرة إلى السفر إلى خارج العراق من اجل ايجاد العلاج لأبناهم المصابين بهذه الامراض النفسيَّة المعقدة.
اعتقاد خاطئ
الطبيب المختص بالأمراض النفسيّة ماهر بطي: بيَّن أن الجهل والتخلف الاجتماعي أحد أسباب تدهور أغلب الحالات والاصابات النفسية للأطفال والصبية وحتى الأعمار الكبيرة، بسبب الاعتقاد الخاطئ بأن الحالة النفسيَّة للمصاب ستتحسّن بمرور الوقت وحدها من دون وجود وسيط أو معالج وهذا خطأ قاتل، فالعملية التي تخص المصابين بالامراض النفسية وامراض التوحد المختلف في درجاته تشبه عملية انتشال الغريق من وسط المياه إلى بر الأمان، فالمصاب يعيش في عالم يختلف تماماً عن العالم الذي نعيش فيه ويجب إخراجه من عالمه إلى الوضع الطبيعي عن طريق التدرّج في تنمية قدرته على التواصل مع محيطه في البيت والشارع أو المدرسة، اكتشاف المرض في مرحلة مبكرة مهم في نجاح العلاج والتخلص من مرض التوحد أو طيفه الذي اصبح متزايداً بين أوساط الأطفال خصوصاً بعد جائحة كورونا.
سبب المرض
الأطباء المختصون بعلاج أمراض التوحد والحالات النفسيّة للأطفال حتى اللحظة لم يجدوا سبباً واضحاً للإصابة بالمرض واختلفت آراؤهم حول سبب الامراض النفسية عند الأطفال التي تمنعهم من النطق والتواصل مع البيئة المحيطة بهم، يقول الطبيب النفسي برهان حسن أمين: حتى الآن لم يثبت العلم السبب الحقيقي وراء الاصابة بمرض التوحد فما زالت الآراء مختلفة حول هذا المرض، فهناك من يفسر على أنه اختلال في الجينات الخاصة بالنطق في الدماغ بسبب وراثي، وآخرون يفسرون المرض على أنه ضعف في الأعصاب الدماغية الخاصة بالتواصل بعضها يتحسن ويقوى مع مرور الزمن أو تزداد ضعفا.
وأضاف أمين: لا علاج دوائياً لهذا المرض باستثناء المهدئات والتعليم المباشر على قدرات التواصل بواسطة مدربين ومدربات مختصين، وهم غير متوفرين بكثرة، وكذلك المراكز العلاجية المختصة بهذا المرض الذي اصبح متزايدا خلال السنوات الأخيرة.
قلة المراكز العلاجيَّة
كمؤسسات صحيَّة لمعالجة الأمراض النفسية وحالات التوحد لدى الأطفال لا توجد في العراق مراكز رصينة معروفة أو طباء ومدرّبون مختصون يمكن أن يسدوا الحاجة الفعليَّة لأعداد المصابين، الأمر الذي أدى إلى افتتاح بعض المراكز الأهلية بكوادر غير متخصصة ولا تحمل شهادات معتمدة في علاج هذا النوع من الأمراض، وبرغم افتتاح مركز علاجي في كربلاء وآخر في بغداد، لكنها لا تفي بالغرض بسبب قلة قدرتها على استيعاب الأعداد الكبيرة للمصابين.
عيادات
الطبيب (يوسف حنو) اختصاص بالأمراض النفسية قال: تركت العمل في المستشفيات الحكومية منذ فترة طويلة، وأعمل في عيادتي الخاصة، ولدي بعض المرضى من فئات وأعمار مختلفة، والأكثريَّة منهم هم الأطفال ممن يتعرّضون لإصابات وحوادث نفسيّة، فقد أصبح علاج الاطفال من الامراض النفسية ولا سيما الذكور غير معيب بعض الشيء، بعكس الاناث التي يواجه ذووهنَّ مشكلة الحرج والخوف من افتضاح مراجعة ابنتهم لطبيب نفسي، فالنظرة الاجتماعية للطبيب والمريض نظرة دونيَّة لأن المجتمع لا يمتلك ثقافة واسعة عن الطب النفسي ويعتبره أمرا مخجلا بالنسبة للمريض في حين أنه ابتلاء وارادة ربانيَّة لها اسبابها الطبية والعلمية التي يمكن علاج بعض حالاتها الصعبة من خلال ممارسة جلسات علاجيّة، لكن امتناع المصابين وأسرهم عن المراجعة زاد من تفاقم حالات الاصابة النفسية وخصوصاً عند الاطفال ممن يتعرضون لحوادث أو امراض ولادية يمكن التغلب عليها بسهولة، واغلب الحالات التي تأتي إلينا تكون متأخرة ومضى عليها سنوات من دون علاج فيكون علاجها صعباً للغاية أو لايجدي نفعاً.
إحصائيات
لا تملك السلطات الصحيّة في العراق أرقاماً محددة لأعداد مرضى التوحد، كما لا تستطيع تحديد مؤشرات لتزايد المرض أو تراجعه، لكن انتشار معاهد ومراكز خاصة بعلاج المرض في أنحاء البلاد يظهر على أرض الواقع حقيقة المشكلة التي أدخلت صراعات نفسية ومالية إلى بيوت كثيرة، في ظل ضعف الرعاية الحكومية لهذه الشريحة. وتحتل العاصمة بغداد ومدن البصرة والموصل وكركوك الصدارة في عدد المصابين بمرض التوحد، بحسب ما يقول مسؤول في وزارة الصحة لم يكشف اسمه، والذي يوضح أن “المدن الأربعة هي الأكثر احتضاناً للسكان، وتشهد مشكلات تلوّث كبيرة تعد بين العوامل الأساسية لتوسع المرض داخل المدن الكبرى”. ولا يوجد في بغداد، التي تضم أكبر كثافة سكانيّة في العراق ويسكنها 9 ملايين شخص تقريباً، إلا مركز حكومي واحد لعلاج مرضى التوحد، ما يضطر العائلات إلى التوجّه إلى مراكز خاصة ذات تكاليف علاج باهظة من أجل الحصول على رعاية وتدريب.