عُمّالُ النظافةِ.. الأقلُّ أَجرًا والأَكثرُ عطاءً

ريبورتاج 2023/10/26
...

 رحيم رزاق الجبور


يتحدث أحد الفنانين التشكيليّين مع نفسه، بشيء من (الفانتازيا)، وهو يقف أمام حاوية مليئة بالنفايات، ويتابع شابين بعمر الورد، وهما يقومان بتفريغها؛ عن إضراب سيقوم به، مع مجموعة من التشكيليّين، وبذلك سيمتنعون عن مزاولة رسم أي لوحة؟! فماذا سيحصل لو قاموا بهذا الفعل الافتراضي؟ بالتأكيد، لن يحصل شيء؟ يجيب نفسه، ويمضي ماشياً، ويقف عند حاوية أخرى، ويشاهد شاباً معاقاً، يعمل بنشاط منقطع النظير، يلملم بيديه قناني الماء الفارغة المتناثرة في الشارع.

ومعرّجًا على الاستفسار ذاته، طارحًا مقارنة بينه وبين هؤلاء الفتية، مفادها: من هو الأكثر تأثيرًا، والتصاقًا مع حياة الناس ورفاهيّتهم؛ نحن، أم هم؟! السؤال: ما الذي دعاه لكي يبحث ويستفسر؛ بهذا الشكل الغريب؛ لولا مشاهدته، وشعوره بشجاعة هؤلاء؛ وهم يقومون برفع أطنان من النفايات من أمام البيوت، والشوارع، والأزقّة، ويشعر بأنّهم شريحة ضعيفة ومسلوبة الحقوق، ولا تتمتّع بأيّ مزايا ترجّح ما يقومون به من مهام عملاقة؛ لا نتخيّل حجمها؛ إلا حينما نرى تلالًا من النفايات تدخل أبوابنا عنوةً، ورائحتها تزكم أنوفنا؛ بعدما قرّر هؤلاء أن ينظّموا إضرابًا شاملًا في البلاد، وفقًا للرؤية الفانتازية التي تخيّلها هذا الفنّان!

جنود مجهولون
في تجوالنا اليومي؛ نراهم في كل الأوقات، فجرًا، وصباحًا، وظهرًا، ومساءً، وليلًا. يعملون بجدٍّ ونشاط. وجوه بريئة، تلفحها أشعة شمسنا الحارقة، وتسدّ الأتربة والأغبرة أنوفهم، وتتسابق الجراثيم للولوج إلى أجسامهم النحيلة، وتتسلّل الروائح الكريهة والنتنة إلى صدورهم، ويتفنّن المجتمع بتعذيبهم، وعدم مساعدتهم برمي القاذورات في غير أماكنها، ويجبرهم أفراده، على الانحناء الدائم، مع نظرته القاصرة لهم، يرافق كل ذلك؛ واقعهم الوظيفي المؤلم، وتدنّي مرتّباتهم، وعدم وجود ضمان صحّي حقيقي لهم؟! من ينصفهم، ومن يداوي جراحاتهم الجسديَّة والمعنويّة، ومن يشعرهم بالأمان والطمأنينة في ظل اجتهاد أرباب العمل، وعدم وجود قانون خاص يجعلهم هانئين غانمين فرحين بمستقبل آمن، يضمن لهم العيش بكرامة وسموّ وعزّة نفس.  

مخاطر صحّيَّة
بحسب التحذيرات والتقارير الصادرة من منظمة الصحّة العالمية؛ فأن النفايات تهدّد عمّال النظافة؛ لأنهم من يقومون بجمعها، بشكل مباشر. وتشمل مجموعة واسعة من المواد، ومنها: البراز والبول، وبقايا الأطعمة التالفة، وفضلات الحيوانات، ومنتجات التنظيف، والمبيدات الحشرية، والأثاث المستعمل، والركام الناجم عن انهيار وهدم المباني، والفضلات الطبّية، كالمحاقن، والإبر، والمباضع والشفرات الوحيدة الاستعمال، والمواد الكيميائيَّة المستعملة في الطبّ كالمواد المطهّرة وغيرها، والحيوانات النافقة والمذبوحة، وبطّاريات السيارات، والمواد الإشعاعية. وبالتالي فهم معرّضون للإصابة بأمراض خطرة، كالتهاب الجلد، والهباء الحيوي، والتهاب الأمعاء، والتهاب الكبد، والتهاب السحايا، والتهاب الكبد الفيروسي.

إعادة نظر
يقول عادل العرداوي (صحفي وباحث): "أنا كمواطن عراقي، أجد من الضروي جدًا؛ إعادة النظر برواتب عمّال النظافة المتدنية جدًا؟ والتي لا تتناسب مع مجهوداتهم، وكدحم، وتعبهم اليومي في تنظيف شوارعنا، وأرصفتنا ومحلّاتنا وحاراتنا؛ ليس في بغداد العاصمة؛ بل في كل بلديات البلاد من دون استثناء. فهؤلاء الأفذاذ، علينا أن نشعرهم بقيمتهم الكبيرة بيننا. وعلينا أن نساعدهم ونقف معهم وننصفهم لأنهم يخدموننا في جميع الأوقات. فتحية لعامل النظافة أينما كان. ونرفع له القبعة دائمًا وأبدًا!".

تعظيم وتخليد
ويضيف: "إن الدول المتحضّرة تنظر إلى عامل النظافة، نظرة احترام واعتزاز. ففي اليابان يطلق عليه تسمية (مهندس النظافة) تعظيمًا لشأنه ومكانته! وليس (كنّاسًا)؟ أو (زبّالًا)؟ كما يحلو للبعض تسميته؟! لا بل أن مدنًا عالمية كبرى، قامت بتخليد عطاءاته بعمل جداريات نحتية، ونصب تذكارية في
أشهر ساحاتها وشوارعها
وحدائقها؛ كما يفعلون مع أعلامهم ومشاهيرهم".

حوادث خطرة
جمال عودة ظاهر، (رئيس قسم المخلّفات في بلدية المحمودية)، يروي قصّصًا كثيرة، عن الحوادث الخطرة التي يتعرّض لها عمّال النظافة، أثناء قيامهم بعملهم اليومي، كالكسور، والأمراض، إضافة إلى استنشاقهم غاز الميثان الخطير، بشكل مستمر. قائلًا: "هذه الشريحة، كانت تعمل بأجر يومي، قيمته 10000 دينار، وبدوام 8 ساعات. ولا تتمتّع بأيّ حقوق، فلا ضمان صحّي، ولا اجتماعي؟ حسب القانون الذي يعملون به؟ فهم يعملون، بأخطر الأماكن، مستنشقين غاز الميثان، الذي تطبّعوا عليه وألِفوه، من خلال عملهم المستمر. علمًا بأنّه لا أحد يستطيع أن يتحمّل ولو للحظة واحدة الوقوف أمام الكابسة، وتحمّل تلك الروائح".

ضمانات ومطالبات
ويضيف، عودة: "كانت هناك التفاتة، بتعيين الغالبية منهم، على قانون (315) ففي بلديتنا، تم تثبيت أكثر من 155 عاملًا، بعدها تم رفع أجرة العامل من 10000 دينار، إلى 13000 دينار، وفي معمل فرز النفايات، إلى 17000 دينار، بسبب خطورته". مطالبًا "أن يكون لهذه الشريحة ضمان صحّي واجتماعي، وتحسين مستواهم المعيشي، وذلك بتوفير سلف خاصة، تساعدهم في بناء منزل، أو مشروع زواج، فضلًا عن تخصيص قطعة أرض تُمنح لهم مباشرة؛ حتّى يشعروا بأنّ الدولة ترعاهم وتهتم بشؤونهم؛ لكي تختلف نظرة الناس لهم، الذين بدورهم مطالبين، بتقديم المساعدة لهذه الشريحة؛ وذلك بعدم نعتهم
بألفاظ وألقاب غير لائقة". خاتمًا، إلى "ضرورة إدخال هذه الشريحة في دورات وورش تثقيفية تساهم في رفع وعيهم، من أجل مجابهة ومعرفة المخاطر التي يتعرّضون لها في العمل؛ كون الغالبية لا يمتلكون المهارة والقدرة والمعرفة الكافية في هذا الصدد؛ من أجل أن يكونوا عمال ماهرين، ولهم شأن كبير في المجتمع".  
حقوق واجبة
يقول المهندس إلطيّف الجنابي (أحد كوادر مديرية بلدية اللطيفية): "إن الأجر اليومي لعمّال النظافة، لا يتناسب والخدمات الكبيرة التي يقدّمونها، حيث تراهم منذ الصباح الباكر وفي شدّة حرّ الصيف، وبرد الشتاء يبحثون عن النفايات في الشوارع والبيوت والأزقّة، لقاء مبلغ 15000 دينار، ولربّما يحصلون عليها في هذا الشهر، والآخر يغيب عنهم؟ في الوقت الذي يتقاضى المسؤول أضعافًا مضاعفة، وفي وقته المحدّد؟ كما لا توجد لديهم أيّ ضمانات، ولا مخصّصات خطورة! ويفترض إحالتهم جميعًا من الأجر اليومي، إلى الملاك الدائم؛ حتى يؤدّوا دورهم بشكل أفضل".

ثقافة
يشير حكمت إبراهيم (مراقب بلدية)، إلى كمّية وحجم النفايات الكبيرة، التي تفرزها الأحياء السكنية، والمحلّات التجارية، يقابل ذلك قلّة في الآليّات، ونقص في العمّال، ويضيف: "نعاني من عادة سيّئة، وسائدة في المجتمع، وهي عدم انتظام رمي النفايات في وقت محدّد؟ فتشاهد إن بعض المواطنين يرمون النفايات متى ما شاؤوا؛ ممّا يسبّب تراكمها بشكل مستمر. وبالتالي يُلقى باللوم على البلدية بعدم رفعها".

دعوات مشروعة
وعبر أحاديث مقتضبة، ولقاءات متلفزة؛ أكّدت مجموعة من العمّال؛ بأنهم يتعرّضون إلى التهميش، والتعامل معهم كمواطنين من الدرجة الثالثة؛ من خلال تقليل أجورهم، وعدم النظر لمعاناتهم، داعين المسؤولين إلى معالجة مشاكلهم وفقًا للقوانين والقرارات النافذة. مبيّنين أن: "عامل النظافة راتبه في جميع بلدان العالم يفوق راتب أيّ موظّف كجزء من وفاء وتقدير لدوره، وأهمّيته في المجتمعات". مضيفين، بأنه: "للأسف الشديد، لم نجد أيّ جهة أو حزب دعا أو تحرّك من أجل إنصافنا، والمطالبة بحقوقنا المسلوبة".

لمسة وفاء
يقول لطيف عبد سالم (كاتب وباحث): "في إحدى الفضاءاتِ الثقافيَّة، ارتقى الشاعر عماد المطاريحي المنصَّة، مُعلنًا بأنّه سيقرأ قصيدة إلى أحدِ قادة المجتمع؟ ولا أراني مُبالِغًا إنْ قلتُ: إنَّهُ بحكمِ الثقافة السائدة في مجتمعنا، فإنَّ جميع من كان حاضرًا حبس أنفاسهُ متأرجحًا في تفكيره ما بين قبول محتمل، أو رفض أكثر احتمالًا؛ لمعرفةِ هوية (القائد) الذي يبتغيه الشَاعِر؟ لكنّه حسمَ الأمر بقوله: "سأقرأ قصيدة مهداة إلى أقدمِ عامل نظافة في بلديةِ الديوانيَّة (العمّ السيّد محمّد السيّد عنبر)، مردّدًا: "بيته طين .. وگلبه فضّه .. وبدلته الزرگه سما الله"! ويضيف، سالم: "لعلَّه من المناسب الإشارة هُنا إلى أنَّ هذا العامل، لم ينقطع عن عمله، حتّى مع انهيارِ مؤسّسات الدولة في عام 2003، حيث دأب على ممارسةِ عمله يوميًّا. فصاحب القلب الكبير، يحرص على أنْ يكونَ رمزًا للتسامحِ والمحبّة وإرضاء الضمير، فتراه لا يخاصم، ولا يقاطع، ولا يفشي سرًّا، ولا يحاول أنْ يسرقَ من وقت العمل. وعلى الرغم من افتقاره إلى نعمةِ القراءة والكتابة بفعل ظروفه التي لم تمنحه فرصة التعلّم، إلّا أنَّه غَدا مدرسة كبيرة في ترسيخِ القيم الإنسانيَّة النبيلة. وصدق المطاريحي، حين نعته بـ(حرز الشوارع)، فهو تعويذة المدينة الفاضلة بامتياز! فتحيّة لرمز النقاء، الكبير بسموّه نحو الخير والفضيلة (السيّد محمّد السيّد عنبر)، وكلّنا نرفع له القبّعات عاليًا؛ احترامًا وتقديرًا وفخرًا وعرفانًا، واعتزازًا، فهو مصدر فخر واعتزاز لكلَّ إنسانٍ شريف، وكلّ صاحب ضمير حيّ!".

حكومة الخدمات
ومن الجدير بالذكر، أن رئيس مجلس الوزراء السيد محمد شياع السوداني؛ استضاف بالقصر الحكومي- في وقت سابق- عددًا من عمّال النظافة العاملين في بغداد. مشيرًا إلى أهمّية الدور الذي يضطلعون به، وأن الحكومة التي رفعت شعار الخدمات معنية بالاهتمام بهم. مستمعًا إلى ما تقدّم من عرض لأوضاعهم الإدارية والمعيشية، ومستفسرًا عن انتظام تسلُّمهم لأجورهم، كما اطّلع على طبيعة الوجبات والأوقات التي يعملون فيها، وأهمّ ما يواجهونه من صعوبات. ووجّه بإتمام كل النواحي الإدارية المتعلّقة بمستحقاتهم، وأن تهتمّ الأمانة بأن تكون لهم الأولوية في المشاريع السكنية ومشاريع توزيع الأراضي في المناطق المخدومة. مانحًا إيّاهم، (كتاب شكر وتقدير)، إضافة إلى (مكافأة نقديَّة)، عرفانًا وتقديرًا لما يقدّمونه من عمل وأداء يستحقّ الإشادة.