إسماعيل خياط.. الإبداعُ الخاص والعام

ثقافة 2023/10/30
...

  د.جواد الزيدي

 في الحديث عن حداثة التشكيل العراقيّ، والرسم تحديداً، لا يُمكن تجاوز تجربة الفنان اسماعيل خياط، كونها تمتلك خصائصها الحداثية على مستوى التصيرات المضمونية والشّكليَّة على السواء، وتقع في مسار التجريب التقنيّ والتعامل مع الخامات، فضلاً عن كونها تجربة متحولة أخذت من أُفق الحداثة وعناوينها الفكريّة والجماليَّة، واتسعت في رؤاها لتصل إلى مقولات ما بعد الحداثة الفنيّة من خلال مصاديق حسية استطاع إنجازها في مراحل حياته المختلفة. ولم يكن هذا الامتداد لتيار أو حركة واحدة، بل هو انصهار مع مجموعة اشتغالات تقع بين (فن الأرض، والفن البصري) وغيرهما أيضاً.
ولذلك فإن تجربة (خياط) تتسم بإتجاهين على صعيد القراءة النقديَّة، أولهما، جانب إنساني، والآخر الفنيّ والجماليّ، لأنّه كان مخلصاً منذ البداية لجوهر الرسم وتمثلاته الإنسانية، إنطلاقاً من فكرة أن الرسم كوني لا يتحدد بالبنى الزمكانيَّة المُتعينة، بل ينطلق عبر هذه الفكرة إلى العالميّة التي تبدأ من المحلية الكردية أو العراقيَّة إلى فضاءات تحفر موقعها ضمن مسارات الفن العالميّ في ضوء امساكه بجوهر الإبداع وخيوطه التي تكمن بتحويل الخاص إلى عام في مجمل خطابه البصريّ الذي بدأ به من تجسيد الواقعة المحليَّة العراقيَّة، بوصفها حادثة إنسانية لامست جوهر الذات، لذلك تناولت أعماله موضوعات إنسانية على الرغم من تركيزها على الخصوصية الكردية (الأنفال وحلبجة) كمثال على المصاديق العيانية المقترنة بالمضمون في ضوء أشكالها ورموزها وألوانها المُستلهمة من محيطه وبيئته المحلية في مجموعة أعمال أنجزها بعنوان (ذاكرة كردستان).
وبهذا لجأ إلى صناعة أقنعة من ورق استطاع فيها حذف التفاصيل ورسمها بأُسلوب بسيط بدائي يتماثل مع الفطرة الإنسانية التي انتهكتها الغازات الكيمياوية السامة والقنابل العنقودية، أشكال ووجوه أو أقنعة مهمشة تتضح عليها آثار المعاناة والدمار، وتحويلات عجيبة لأشكال مجسمة بدت وكأنها صفائح معدنية دُعكت بضغط العوامل المختلفة من دون ملامح شخصية تتجاوز العمر والجنس أو المرتبة الاجتماعية.
ويواصل خياط حفرياته ضمن اركيولوجيا خاصة به ناشئة من عمق المأساة والتراجيديا التي مرت به وبمن حوله، فأنجز مجموعة تخطيطات موسومة (الموت في حلبجة) استخدم فيها أقلام الرصاص الملونة، بوصفها وثيقة إدانة للقوة الهمجية التي سعت إليها الأنظمة السياسية لتحويل الذات البشريّة إلى أشلاء مشوهة متروكة في العراء.
وفي هذه التخطيطات هناك اقتصاد في اللون والشكل والرموز المستخدمة تمثل هذه العزلة المخيفة التي تعكسها الأجساد، بيد أنّها في الوقت نفسه موحدة وملتحمة مع المحيط، حيث بدت خطوط الجسم تمتد لتكمل أو تستعير تضاريس الطبيعة المحيطة بسهولها، وجبالها، وغيومها. إن محاولة التعبير عن هذه التراجيديا الضخمة في عمل تشكيّلي في عصر التقنيات الرقميّة والوسائل البصريّة الأخرى يقع في خانة التحديات والاصرار الذي يمتلكه الفنان في انتمائه للحياة وللرسم معاً، واعتماده وسائله التقليدية في العمل، انطلاقاً من رغبة كامنة في داخله تقترن بأهمية عمله لدى المتلقي.
وفي هذا يعكس معاناة الإنسان الكردي على وفق رؤية إنسانيّة متمثلة في الوسائل المتجددة التي طالما اعتمدها في رؤيته الفنية والفكرية من خلال التراكيب الشكليّة المُجسدة في عناصر التصميم وفن الكرافيك ووسائل الايضاح من دون الوقوع في تكرار الأساليب المعتمدة.
فهو لا يعمد إلى استخدام القماش في انشائية لوحته كونه يمتص الألوان ويشتت وضوحها وتتطلب مراحل كبيرة للبناء اللوني وإلغاء التشتت، لذلك يلجأ إلى ألوان تعبيريّة هادفة يفرشها على المساحات الأرضية والأحجار ليخلق منها ملمساً خشناً يتشبه بالحياة اليومية أو العالم الموضوعي، وينجز تكويناته بطريقة الحفر أو الإضافات اللونية على مادته الأساسية.
  إن إتصال خياط بمفهومات الحياة وفهم تضاداتها الثنائية جعله يضع في حساباته إعلان هذه الثنائيات في عمله الفنيّ لاستثماره مقولات الحياة والفلسفة على السواء لتصبح لوحته ترديداً أو صدىً لأثر الخارج تسكنها هذه التقابلات الضدية مثل (ضوء وظلام، موت وحياة، تشخيص وتجريد، حركة وسكون، واقع وحلم، رقة وخشونة) وغيرها. كل هذه الثنائيات تشكل مادة ذاكرته التي تتحرك ضمن هذه الديمومة الخالصة أو الزمن السيال المتصل بجذور الواقعيَّة وصولاً إلى قراءاته المعاصرة في ضوء ما ترسب فيها من أشكال لصخور شمال الوطن، وبشكل يجعلها تجربة باطنية روحيّة يدعمها خيال مطلق يقترب من أفكار المتصوفة في إخلاصه للفكرة المثاليّة، حين يُدير ظهره لمغريات العالم المادي ويذهب إلى الجوهر او الماهيات الكامنة في الأشياء.
إن تحولاته الأُسلوبية وبحثه المستمر وحفرياته الجمالية جعلته يُنعت بصاحب أكبر لوحة في العالم، حين استطاع تحويل سفح جبل كردستاني إلى لوحة زيتية تمتد ما بين كويسنجق ودوكان في منطقة (كاني وتمان). وبهذا سجل اقترانه بفنون ما بعد الحداثة وتحديداً (فن الأرض) حين ذهب إلى الجاهز والكامن في الواقع والطبيعة. ولم يقف عند هذا الحد، بل عمل على تحويل أرضية المباني والجدران إلى تكوينات بصريّة عن طريق نشر ألوانه التي تحمل موضوعاتها الخاصة، وهو جزء من استعارات آليات (الفن البصري).
وبهذا خرج من معطف الحداثة وآلياتها إلى ما بعدها في ضوء ما تمليه عليه الضرورات الجماليَّة والموضوعيَّة التي يجب الأخذ بها من أجل طريقة مغايرة للتعبير. وهنا يتقصد تثوير فكرة الأثر والمكان وأضحت لوحته وثيقة إدانة للأنظمة السياسيَّة المتعاقبة التي أرادت النيل من الشعب العراقيّ بجميع مكوناته عربيّة وكردية خاصة في (الأنفال وحلبجة).