البديل الثقافي ومفارقته في مشروع جمال جاسم أمين
حسن الكعبي
كثر الجدل في الوسط الثقافي العراقي حول مفهوم البديل الثقافي على هامش مؤتمر (ثويزا) المقام في طنجة في دورته السابعة عشرة، تحت شعار: “في الحاجة إلى مشروع ثقافي بديل”، الذي سبق أن طرحه وسعى إلى تأصيله في الثقافة العراقية، الناقد جمال جاسم أمين.
وفي هذا المساق كان ثمة شبه إجماع في الوسط الثقافي العراقي، على انتحال المؤتمر للمفهوم وانتهاك ملكيته كما تنزل في مشروع جمال جاسم أمين، لكن الجدل ظل مرتكساً في هذا المدار، ودون أن يتحرر إلى مجال التعريف بهذا المفهوم للكشف عن المماثلات والمطابقات بين المفهومين في استعمالات أمين واستعمالات المؤتمر في طرحه لهذا المفهوم.
ومن هذا المنطلق فإنَّ مسعانا هنا هو التعريف بمفهوم البديل الثقافي وتتبع مساراته في مشروع أمين الذي انطلق في تأصيله للمفهوم بإيجاد (مقاربات نقدية- فكرية) حول مهمة المثقف ضمن هذا البديل في مواجهة ما ينتج من ثقافة زائفة مهيمنة تؤسس للأزمة الثقافية بقوله: “يقف المثقف- الآن- على مفترق طرقات خاصة بعد أن أيقن خطورة العزلة والهامشية التي جعلته موصوفاً بكونه مثقفاً (تقنياً) أو مهنياً بمعنى أنَّهُ يمتهن الكتابة في برجه الخاص دون أن يبالي بما يحدث خارج هذا البرج وبالتالي يجد نفسه إزاء أكثر من معضلة: هل يتمسك بهذه (التقنية) أو روحه المهنية بتعبير أدق؟ أم يتحول إلى (مثقف عضوي) كما يريد (غرامشي) أو (مثقف وسيط) كما يدعو علي حرب، أو (مثقف احتجاجي) كما يؤكد إدوارد سعيد؟ والسؤال الأعمق: أترانا نلجأ الآن إلى مثل هذه التوصيفات أو الحلول لأننا- أصلاً- لم نفكر ببدائلنا الخاصة؟ وما حدود هذه الخصوصية في عالم أصبح كوكبياً ومفتوحاً على كلِّ شيء؟”.
إنَّ مواجهة هذا النوع من الثقافات المهددة لمنظومة القيم يكمن في طرح بدائل ثقافية عبر إعادة النظر في مفهوم وظيفة المثقف وفي هذا المجال تم طرح هذه البدائل في مفهوم علي حرب حول وظيفة المثقف ضمن مصطلح (المثقف الوسيط) الذي يعني- كما يوضح حرب- “أنْ يتخلى المثقف عن دوره الفاشل كضمير للأمة أو كحارس للوعي، أو كوصي على القيم، لكي يمارس دوره بوصفه فاعلاً في ميادين الفكر والثقافة، مهمته الأولى هي الخلق والإنتاج لصنع عقلانية ومناخات حوارية تواصلية تسهم في بلورة قيم مشتركة أو أفكار وسطية”، كما أشار إلى أنَّ الأزمة في مواجهة الثقافة الزائفة تكمن في “أنَّ بعض المفكرين العرب تستبد بهم عقدة الأبوة وأوهام الألوهة، فيتوهمون أنَّهم قابضون على زمام الفكر، وأنَّهم هم الذين صنعوا غيرهم”. ويضيف: “مشكلة المثقفين الكبرى أنَّهم لا يعرفون المشكلة بقدر ما يجهلون المهمة، بمعنى أنَّهم لا يعرفون أنَّ المشكلة تكمن في أفكارهم، بقدر ما يجهلون أنَّ المهمة الآن هي أن يعيدوا النظر في مقولاتهم وقيمهم وأدوارهم”.
من جهة أخرى طرح غرامشي مفهوم المثقف العضوي حيث يقسم المثقفين على قسمين: المثقف التقليدي، والمثقف العضوي، ويكمن معيار التفريق بين هذين النوعين، في الدور الذي يلعبه هذا المثقف ضمن بيئته، مشدداً على دور المثقف العضوي الثوري وهو في حدود تعريفات غرامشي “مثقف ينتمي إلى أحزاب ومنظمات ثورية جذرية، تُمثل الطبقة العاملة، ويكون المدافع عن مصالحها، التي تكون ذات برامج ثورية، تهدف إلى تغييرات جذرية في بنية المنظومة السياسية، والاقتصادية.
وفي مسار مماثل ومنزاح عن طروحات غرامشي اقترح إدوارد سعيد مفهوم المثقف الإشكالي الجدلي انطلاقاً من مراجعته لــ(غرامشي وجوليان بندا) إلَّا أنَّ إدوارد سعيد في هذه المراجعة كما يصف علي حرب “يقف موقفاً وسطاً متردداً بين صورتين للمثقف تقعان على طرفي نقيض: الصورة التي نجدها عند جوليان بندا، أي صورة المثقف المُنَزَّهِ عن الأهواء والغايات المترفع عن المصالح الشخصية، العملية والسياسية، باعتبار أنَّ مملكة العدل والحق والحرية ليست من هذا العالم، والصورة التي نجدها عند غرامشي، أي صورة المثقف المنخرط في واقعه وصاحب المشروع الذي يسخر فكره وقلمه لتغيير المجتمع والعالم”.
لكنَّ إدوارد سعيد يحدد للمثقف الجدلي دوراً ووظيفة بقوله: “وما دور المثقف الجدلي الاعتراضي، إلَّا دور الكشف عن النزاع وجلاء معالمه، فعليه أن يتحدى ويهزم الصمت المفروض والاستكانة التطبيعية اللذين تفرضهما السلطة الخفية حيث ومتى كان ذلك ممكناً”.
ومفهوم البديل الثقافي عند جمال جاسم أمين على الرغم من أنَهُ يتكئ على هذه الأطروحات الفكرية في مواجهة الأزمات والإشكاليات الثقافية التي يواجهها المجتمع إلَّا أنَّهُ رفض الركون المطلق لها، فهو يدعو إلى أن تكون هذه البدائل مستندة إلى خصوصيتها ضمن السياق الذي يحتضنها، “وإلَّا فإنَّ التحرك في مجال تبني الأطروحات هذه على أهميتها، يعبر عن غياب ستراتيجيات معرفية لمفهوم الخصوصية في منظومة تفكيرنا” كما يؤكد أمين.
وتكمن الخصوصية عند جمال جاسم أمين في إنتاج ورش أسئلة لمراجعة الثقافة التالفة وإعادة ترميمها، ليكون للثقافة دور فاعل في تصحيح المسار الاجتماعي، فالشاعر والناقد جمال جاسم أمين يؤمن بدور الثقافة في التأثير الاجتماعي وليس العكس، ولذلك فهو يدعو إلى مراجعة مفهوم النخبة كمفهوم عزز نزعة التعالي التي فصلت المثقف عن محيطه وجعلته في عزلة دائمة، ولتجاوز مفهوم النخبة لذلك فقد دعا إلى مفهوم (شعبية الثقافة) المعاكس لمفهوم الثقافة الشعبية في توجهات النقد الثقافي كما تنزلت في مقترحات عبد الله الغذامي.
ومفارقة جمال جاسم أمين لهذا التوجه النقد الثقافي يكمن في قوله: “يجب التساؤل من خلال هكذا ورش عن كيفية تأسيس مفهوم (شعبية الثقافة) وليس (الثقافة الشعبية) التي يدعو النقد الثقافي- الآن- إلى تأصيلها أو تفعيلها في مواجهة ضديدها (الثقافة الرفيعة) كما يطلقون عليها، ذلك لأنَّ العودة إلى الثقافة الشعبية تعني الانصياع لبنى ثقافية لم ننتجها بينما (شعبية الثقافة) هي محاولة إشراك المجتمع في سياق فعالية ثقافية على أساس البنى التي تفرزها اللحظة الراهنة والفارق كبير بين المفهومين”.
يبدأ هذا التأسيس من خلال نقد مؤسسات إنتاج الثقافة على الصعيد السياسي والتعليمي وعلى مستويات إنتاج النصوص الثقافية التي يريد لها أن تخرج من كونها النصوصي إلى كونها الخطابي أي أن تتحول النصوص من مجرد نصوص جمالية إلى خطابات ثقافية وفي هذا السياق يقول أمين: إنَّ “نخبوية الثقافة العربية على وجه العموم والثقافة العراقية بدرجةٍ أشد تقودنا حتماً إلى إعادة فحص وتأمل الفاعل الاجتماعي كما تدعو إلى مراجعة دور الأكاديميات التي شكّلت معادلة ساخرة: كلما ازداد عددها في البلد ضعف دورها أو غابَ بالمرة!”.
مقاربات جمال جاسم أمين تجري مسحاً شاملاً للبنى والأنساق الثقافية في تشكلاتها ضمن السياق الاجتماعي، وفواعلها الإنتاجية المؤسسة للأزمات والأعطاب الملتحفة بالمنظومة الثقافية، وما ينتج عنها من أنساق ثقافية تالفة تقترح بدائلها للخروج من مهيمناتها الضارة، ومؤتمر (ثويزا) خرج بتوصيات مماثلة وضعت المؤتمر تحت طائلة الشك والتعريض بتأصيله للمفهوم باحتجازه ضمن مفهوم الانتحال لمشروع جمال جاسم أمين.