عقيل حبيب
أحدثت الثورة التقنية والرقمية تغيرات إن أمكن احصائها فيقينا لا يمكن حصر تأثيراتها، وملاحقة هذا الإطلاق ليس دور العلم، خاصة العلوم التي تتعامل مع ظاهرة غير ثابتة وغير مكشوفة كالظاهرة البشرية، وهذه العلوم هي من قبيل علم النفس والاجتماع والانثربولوجيا وغيرها من العلوم، التي يتركز اشتغالها في دراسة جانب من جوانب الظاهرة، ذلك الجانب الذي يقع ضمن حقلها المعرفي، أما خارج هذا السياق فهي غير مسؤولة عنه
إن مثل هذه الاشتراطات العلمية المنهجية الابستيمولوجية يمكن ان تنطبق على موضوع هذه المقالة وهو الصورة، وبالتحديد البعد السيكولوجي منها، فكما يعرف الجميع فان الصورة حضت عبر تاريخ العلوم الحديثة باهتمام الباحثين والعلماء، نتج عنه عن توجت بحقل معرفي مستقل، بعد عدد مهم من الدراسات التي قام بها كتاب وفلاسفة مثل رجيس دوبريه وكتابه (حياة الصورة وموتها)، وبودريار (مجموعة كتب)، ورولان بارت (الصورة، بالإضافة إلى مقالات متفرقة في كتبه)، ودافيد فيكتوروف (الإشهار والصورة)، وويليامز توماس ميتشل (الأيقونولوجيا: الصورة والنص والأيديولوجيا).
اما عربيا فقد اثار موضوع الصورة عدد من الكتاب العرب الذين ترجموا واشرفوا وكتبوا في هذا التخصص العلمي، ومنهم سعيد بن كراد (سيميائيات الصورة الإشهارية، وكتاب تجليات الصورة) وشاكر عبد الحميد (عصر الصورة)، وفريد الزاهي (الصورة والآخر)، وغيرهم العشرات، إن لم يكن المئات.
يسمى العلم الذي يدرس الصورة الأيقونولوجيا Iconology، وهو كما اسلفنا علم حديث النشأة ظهر بعد عدد من الدراسات التخصصية، ليتم اعتماده علميا واكاديميا في بلدان العالم، اما عربيا فلم يحقق هذا الميدان استقلاله الاكاديمي للآن، ولم يأخذ دوره بين التخصصات العلمية، بل يدرس من قبل تخصصات اقسام الإعلام، والتربية الفنية، واللغة العربية حينما يكون المنهج متعلقا بالسيميائية.
اما على مستوى علم النفس، فلم تحظَ الصورة إلا باهتمام قليل من قبل الكتاب والباحثين الغربيين، على الرغم من أن هناك جانبا سيكولوجيا مهما من الصورة يرتبط بالعمليات، التي تشكل حياة الصورة أو وجودها، كالتصوير والتخيل والإدراك والمحاكاة.
إن الجانب النفسي الكبير يفوق هذه العمليات ذات الطبيعة السيكولوجيَّة، وقد رافق حياة الصورة منذ طفولتها، حتى دخولها تاريخ العالم بهذا الشكل الإشهاري، وإن تم اهمال الدارسين والباحثين لهذا الجانب، إلا من بعض الاستثناءات كمحاولة دافيد فيكتوروف (كتابه: سيكولوجيَّة الإشهار 1970.
وكتاب: الإشهار والصورة 1978) الذي أكد على سلطة الصورة واستقلالها الإقناعي والإبلاغي (خاصة عن المضمون اللساني واللفظي) واستهدافها للاشعور، فهي لم تعد مجرد لحظة للتأمل العقلي بقدر ما تعكس “اندفاعا حسيا” لتلبية حاجة الصورة.
الصورة عند فيكتوروف تستثير ما تريده هي من انفعالات ورموز، لا ما يفرض عليها.
إذن، مع باحث كفيكتوروف اكتشفنا أن جزءا مهما من البناء السيكولوجي للصورة يعتمد اللاشعور وآلياته الميكانزمية.
تلك الآليات أو الوسائل الدفاعية، التي وضع قائمتها سيجموند فرويد قبل قرن تقريبا.
ولكن ما يعاب على مقاربة فيكتوروف أنها حصرت اهتمامها بالجانب الإعلاني من الصورة، وعلى الطور الإشهاري من حياة الصورة، وهذا ما جعل الصورة واقعة نفسية من مرتبة ثانية.
اما منهجيا فقد انحصر التحليل السيكولوجي لفيكتوروف في زوايا من قبيل “الوظيفة الانتباهية”، أي في الإشهار الذي تقدمه الصورة وهي تجيب عن سؤال: كيف تثير الصورة انتباه المستهدف؟.
اما علم النفس الإعلامي أو سيكولوجيَّة الإعلام Media Psychology فان اتساع مساحته المعرفية (صحافة، اذاعة، تلفزيون، انترنيت ومواقع تواصل كثيرة... الخ) جعلته لا يولي الصورة الاهتمام المطلوب مركزا على الإجابة عن سؤال: ماذا فعلت وسائل الإعلام - ومن ضمنها وسائل التواصل الاجتماعي- بالبشر؟ وهو سؤال عريض جدا يستبطن عددا هائلا من الأسئلة التي تحتاج إجابات علمية، مثل: كيف تنظم وسائل الإعلام حياتنا العامة والخاصة؟ وما هي الآثار التي تتركها وخاصة على الرأي العام؟
وما هي الآثار السلبية التي تتركها على الشباب والاطفال وقد امتلأت تلك الوسائل بمواد عنفية وجنسية و... الخ؟
ومثل علم النفس الإعلامي يركز علم النفس الإعلاني على جانب من جوانب النشاط أو السلوك البشري وهو الإعلان، معتبرا إياه موقفا إدراكيا يحتاج استجابة مباشرة من قبل المستهدف أو المتلقي.
ويحدد علم النفس الإعلاني أهم قوانين الإدراك في هذا الموقف الإعلاني وهي: التكرار، والأولوية، والحداثة، والشدة، وثبات الملابسات.
لذا ينحصر التحليل السيكولوجي في مساحة الاعلان وما يراد منه من إثارة انتباه المتلقي وجذب انتباهه وتركيزه والاحتفاظ بهذا الانتباه اطول مدة ممكنة.
وأن واحدة من أهم أدوات الإعلان لتحقيق غاياته هذه هو الصورة، ولكن حصر الصورة في هذه المساحة لن يفيد علم الصورة بشكل عام، ولا يفيد المقاربة السيكولوجيَّة للصورة بشكل خاص.
إن المقاربة السيكولوجيَّة للصورة تنطلق من الدلالات النفسية للصورة، لتبني منها خطابها العلمي السيكولوجي، فهي تلاحق هذا الدال البصري - بنظريات ومناهج علم النفس وأدواته - وهو يتكون وينمو، حتى يصبح (وهو المزيج من علم النفس والصورة) بناءه المعرفي المستقل وسياقه العلمي الخاص.
وعلى العكس ممن يقول إن الصورة هي نهاية الشيء المصور وحد يوقف تمدده الزمني والعلاماتي والرمزي، تظل الصورة أكبر من مجرد مثيرات بصرية، لأنه وببساطة، هذه المثيرات لا تتوقف عن التفاعل (إلا عند موت الإنسان) وعلى جميع المستويات بدءا من المستوى البصري حتى المستوى الذهني (الصورة في الذهن)، وإلى المستوى الرمزي والنفسي والاجتماعي
والسياسي... الخ.