رحيم رزاق الجبوري

يعد الكتاب المصدر الرئيس للتنوير الثقافي والمعرفي والفكري والحضاري للإنسان. وهو البوابة الواسعة التي ندخل من خلالها لنكتسب المعارف والآداب والفنون والعلوم والثقافات المختلفة، وكم نشعر بالسعادة واللذة ونحن نقضي أوقات فراغنا بين ثنايا الكتب؛ حيث المتعة والشغف واللهفة. ونحلق عالياً في فضاءاتها الساحرة، ونصطاد الأفكار الجيدة، التي تجلب لنا المنفعة، وتحصننا من الضرر، فهي السلاح الفعال الذي يجعلنا نواكب مسيرة التقدم العلمي وإفرازاته ومعطياته المتسارعة. فما أطيب وأجمل الأوقات التي نمضيها في القراءة، والاطلاع على ذخائر العقل وكنوز المعرفة، فتنمو معلوماتنا، وتتسع ثقافتنا، ويسمو فكرنا، فهي سبيلنا ومرجعنا. وعليه، لا بد من تقوية الصلة بالكتاب واتخاذه خليلا ورفيقا وجليسا.

ولعل الدور الذي تضطلع به المكتبات العامة في تعزيز دور القراءة، ومطالعة الكتب من خلال ما تحتويه من كنوز معرفية لا تعد ولا تحصى، فضلا عن ارتباطها الوثيق بالكتب؛ باعتبارها الحاضنة الأساسيّة لها، وما توفّره من أجواء هادئة تمنحها للقارئ، عند ولوجه قاعتها التي تعجّ برائحة وعبق الكتب، والتي تجعلك تثمل وتدمن على زيارتها في كل وقت وحين. فكل كنوز العالم لا تساوي ما تحتويه المكتبة. وكل ما فاتك في الحياة، تجده فيها. تعالَ معي عزيزي القارئ، لأصطحبك في هذا التحقيق الصحفي؛ لنتعرّف على واقع (المكتبات العامّة في بغداد)، ونتجول في أروقتها، ونطّلع على أبرز نشاطاتها، وبيان القضايا التي تواجه تطورها، وتعيق من تقديم خدماتها المعرفيّة والثقافيّة؛ بأفضل صورة، وأكمل وجه.

متصرفيَّة بغداد
يتطرّق طالب عيسى (مدير الشؤون الثقافيّة والتنمية البشريّة في محافظة بغداد)، إلى العديد من القضايا والأمور التي تخصُّ واقع مكتبات بغداد، ونشأتها، وكيفيّة الحفاظ عليها وتطوير مهامها، منطلقًا من توجيهات رئاسة الوزراء الأخيرة؛ التي نصّت على حمايتها من المستثمرين والمتربصين، فضلا عن زيادة أعدادها، إذ يقول: "ترتبط مكتبات بغداد العامة بمحافظة بغداد؛ وليس بمجلسها، أو بوزارة الثقافة، كما يشاع. فمنذ بداية القرن العشرين وتأسيس الدولة العراقية بدواوين المحافظات؛ كانت مرتبطة بمتصرفية بغداد. ولا نيّة لتغيير ارتباطها. وتخضع جميعها إلى نظام المكتبات العامّة، وآخره الصادر سنة 1994، وقد شكلت مؤخرًا لجنة عليا في رئاسة الوزراء؛ من أجل إعادة كتابة النظام لمواكبة التغييرات الحاصلة في مجال المكتبات والمعلوماتية. علمًا أن جميع مكتبات العراق تعتمد الفهارس التقليديَّة، والفهارس الإلكترونيَّة، ولدينا فهرس موحّد لها".

حملة كبيرة
ويضيف عيسى: "تحتوي بغداد على 20 مكتبة عامّة. تنتشر في أنحائها، وتقدم خدماتها. وتعد واجهة ثقافيّة مهمّة لها. ولهذا فقد قامت المحافظة مؤخرًا بحملة كبيرة لإعادة تأهيلها وصيانتها، وهي مستمرة بذلك وبإشراف مباشر من قبل محافظ بغداد م. محمد جابرالعطا، والمعاون الفني م. حيدر والي، وهذه الحملة تعد من أكبر الحملات التي نفذت للنهوض بواقع المكتبات منذ سنة 1991".

مواجهة الفكر المتطرّف
ويكمل: "هناك توجه وتحرك جدي بفتح مكتبات عامّة جديدة. فالعاصمة بحاجة لفتح أكثر من 100 مكتبة؛ من أجل مواجهة الفكر المتطرف، والارتقاء بعقول الشباب، ومواجهة الآفات والأمراض والظواهر السلبيّة كالمخدرات وغيرها". منوها إلى: "أن مصير مكتبة ابن خلدون العامّة في المحموديّة، التي تعد من أهم مكتبات بغداد، والتي بسبب تهالكها وقدمها؛ قد خضعت لطور البناء. وبانتظار إكمال المخطّطات للشروع ببنائها بطريقة عصرية لتكون أكبر مركز ثقافي في المحموديّة".

 مشكلة عالميَّة
وعن تراجع ارتياد المكتبات، من قبل المواطنين، بيَّنَ عيسى، بالقول: "هنالك العديد من الأسباب منها: التكنولوجيا الحديثة، وتراجع الكتاب الورقي أزاء الكتاب الإلكتروني. وهذه مشكلة في كل العالم، لذلك يجب تحويل المكتبات لمراكز ثقافيّة متطورة لمعالجة هذا الأمر".

عراقة
تعد (مكتبة الكاظمية العامة)، إحدى المكتبات العريقة والمهمة في بغداد، والتي تأسست في عام 1947، ورمّمَت في عام 2022، وتخضع لإشراف قسم الشؤون الثقافية والتنمية البشريّة، في محافظة بغداد، وتعاني من عدم وجود ملاك متخصص، فضلا عن قلة في المصادر الحديثة وخاصة العلمية، وتقول أمينة المكتبة منال حسن السعدي: "تعد مكتبتنا إحدى أهم حواضن المعرفة التي واصلت العطاء المعرفي. فهي ليست مجرد مكتبة تقليديّة تضم الكتب؛ بل هي منهل روحي وثقافي عالق في نفوس وذاكرة علماء ومثقفي مدينة الكاظمية، وإرث ثقافي ومعرفي وثق تاريخها، منذ أربعينيات القرن المنصرم، وتعطّرت أجواؤها بنسيم نهر دجلة ونفحات الإمامين الجوادين (عليهما السلام) لتكون منارًا للعلم والمعرفة". وتضيف: "بالرغم من وجود التحديات والمعوقات التي تعاني منها المكتبة؛ إلّا أنّها تقدم الخدمات لكل شرائح المجتمع؛ من خلال تنظيم المعارض والندوات والورش الثقافيّة والاجتماعيّة، واستقبال طلبة المدارس. ولدينا تنسيق مع العتبتين المقدسيتين العباسيّة والكاظميّة، ودار ثقافة الأطفال؛ لتزويدنا بالكتب والمصادر والإصدارات والصحف. فضلًا عن وزارتي التربية، والشباب والرياضة، والمنظمات غير الحكوميّة". وتقترح السعدي، في ختام حديثها، قائلة: "نطالب بزيادة الدعم الحكومي للمكتبات، من أجل ديمومة عملها، وتكثيف التغطية الإعلاميّة محليّا وعربيّا، فضلا عن ضرورة إعادة العمل بنظام الصباحي والمسائي، وتوفير التيار الكهربائي بشكل مستمر، مع منظومة إنترنيت، وأجهزة تدفئة وتبريد، ومستلزمات الراحة لروّادها".

تأهيل كامل
يقول أمين (مكتبة الدورة العامّة) جمال أحمد شلال: "تأسست المكتبة في عام 1972، عند مدخل مدينة الدورة الرئيسي. وحظيت بحملة ترميم المكتبات، بالتأهيل الكامل مع التجهيز بالمستلزمات الضرورية ضمن خطة عام 2023، وفتحنا باب التبرعات، للمثقفين والكتاب، وحصلنا في إثر ذلك على قرابة 6000 كتاب ومصدر. وبما أنّها تعد المتنفّس الثقافي والعلمي الوحيد ضمن الرقعة الجغرافية؛ فهناك العديد من الفعاليات والنشاطات التي نقيمها، بالتعاون مع دوائر الدولة ومؤسساتها ومنظمات المجتمع المدني، وبذلك تكون المكتبة فعّالة ونشطة تؤدي الغرض الذي أعدت من أجله، كما نأمل بتوسعة مجالات العمل الثقافي والعلمي مع المؤسسات والجامعات الحكوميّة؛ من أجل نشر الثقافة العامة في المجتمع. علما أنّنا نستقبل شهريًا قرابة (100- 150) مطالع، عدا الزيارات المدرسيّة، والنشاطات الثقافيّة التي تقام على قاعاتها".

متنفّس أساسي
تأسست في عام 2007، باسم مكتبة الشعب، وتم تغيير اسمها إلى (مكتبة العلّامة الدكتور حسين علي محفوظ)، نسبة إلى عالم اللغة العربية البروفيسور حسين محفوظ، ويقول أمينها عقيل جمعة هاشم: "تغير اسم المكتبة تخليدًا وتكريمًا للراحل؛ بعدما أغنى الجامعات والحوزات العلمية بمؤلفاته الكبيرة. وتمَّ تأهيلها مؤخرًا من أجل أن تكون المتنفس الأساسي والرئيس لروّاد القراءة. وتعتمد على الدعم الحكومي، فضلا عن دعم دار الشؤون الثقافيّة، والمؤسسات العلميّة، والعتبة العباسيّة المقدسة، ومؤسسة الذاكرة، وعلى تبرّع الأهالي بمكتباتهم الشخصية. كما لدينا تعاون مع جامعة الإمام الكاظم (ع) للعمل مع مكتبتها لفهرسة وتسجيل الكتب الموجودة داخلها، والتعاون جارٍ مع مختلف الجامعات الحكوميّة لديمومة الحركة الثقافة للكتاب. ويرتاد مكتبتنا نخبة من المثقفين والأدباء والشعراء والأساتذة، وطلاب المدارس؛ الذين يعدون الثروة الفكريّة والثقافيّة لمستقبل بلادنا".

حث وترغيب
ويضيف جمعة: "من أجل النهوض بواقع المكتبة؛ يجب الأخذ بنظر الاعتبار الأهمية القصوى لمتغيرات الحياة اليوميَّة، والأثر السلبي في استخدام الهواتف الذكية على الإنسان. وعليه لا بدَّ من الاهتمام بمكتبة الطفل كونها البذرة الأساسية في زراعة الأجيال المقبلة؛ من خلال حثهم وترغيبهم وتشجيعهم على زيارة المكتبات؛ من قبل إدارات المدارس؛ لغرض التزود بسلاح العلم والمعرفة".

احتياجات
أمين (مكتبة ابن الهيثم العامّة) سجاد محسن جياد، يتحدث عن مكتبته، التي تأسست في عام 1968، وتقع في مدينة البياع، قائلا: "سميت بهذا الاسم تيمنًا بالعالم العربي الحسن ابن الهيثم عالم البصريات، وجرى ترميمها في عام 2023. ورغم وجود المعرقلات؛ إلا أنّها تقدم الخدمات لكل شرائح المجتمع؛ بإقامة المعارض والندوات واستقبال السفرات المدرسيّة، والكثير من النشاطات. ولدينا تنسيق مع وزارة الثقافة، والتعليم العالي والبحث العلمي، والتربية، والشباب والرياضة، والمكتبة المركزية، ومؤسسات ومنظمات غير حكومية لدعم عملنا؛ من خلال إقامة الندوات والمؤتمرات الثقافية والعلمية على أرض المكتبة؛ لكننا بحاجة لعدد من القضايا المهمة التي تسهم في ديمومة عملنا؛ كالحاسبات المتطورة، وشراء الكتب والمصادر الحديثة، فضلا عن عدم وجود ملاك متخصص بعلم المكتبات يساعد ويطور عملنا الإداري".

قرارات مهمة
ومن الجدير بالذكر، أن وزارة الثقافة استضافت (مؤتمر المكتبات العامّة في العراق) من أجل النهوض بواقعها. والذي عقد مؤخرًا، برعاية رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني، وبإشراف مستشاره الثقافي د.عارف الساعدي، وبحضور ملاكها المتقدّم، وأمناء المكتبات العامة، والمختصين بعلم المكتبات، وذلك للخروج بحلول عاجلة لإعادة تأهيلها وترميمها كونها جزءًا من ذاكرة البلد الثقافيّة. وبناءً على توجيهات سيادته، صدرت مجموعة قرارات، أهمّها: ضرورة توفير التخصيصات الماليّة لإعادة وترميم المكتبات. شراء الكتب والمصادر الحديثة. إنشاء مكتبات أو أجنحة متخصصة بالطفولة وذوي الاحتياجات الخاصة وكبار السن. الاهتمام بتوفير كلّ السبل التي من شأنها حماية المقتنيات والكتب الموجودة من الحرائق وغيرها. الحفاظ على مباني المكتبات العامّة من المتربّصين والمستثمرين. إكمال متطلبات المكتبات الرقميّة وشراء الأثاث المكتبي وكاميرات المراقبة وأجهزة التبريد والتدفئة والحاسبات والطابعات وغيرها. إعادة تأهيل وبناء المكتبات الآيلة للسقوط. بناء مكتبات جديدة في كلّ مراكز المدن والأقضية والنواحي ذات الكثافة السكّانية الكبيرة. توفير تخصيصات ماليّة سنويّة لشراء الكتب. إعادة النظر بالهيكل الإداري لقسم المكتبات لمواكبة التطوّرات الحاصلة في مجال المعلوماتيّة وعلم المكتبات.