رولا حسن
يظهر ناجي العلي بشخصه حنظلة على الجدار العازل الفلسطيني، وفي الكثير من الأماكن والصحف التي لم تستطع نسيانه ولا نسيان الرصاصة، التي وجهت إلى وجهه، لا سيما الآن في الحرب الشرسة التي تقودها المقاومة .
يعود ناجي العلي دائماً على هيئة طفله حنظلة الذي رافق مسيرته، وضبط إيقاع خطوطه وبياناته ضد الديكتاتورية .يدير ظهره للمغتصبين، الساكتين على الاغتصاب، والمتخاذلين في استعادة الأرض .
وبعد كل هذا الوقت لا يزال حنظلة يعلن رفضه، وتبرمه مما يحدث على يمين الجدار، وعلى يساره من محيط العالم العربي إلى خليجه. يطلق صراخه من خلف الكوما التي ضربت رأسه، ومن تحت أظافر يديه المعقودتين خلف ظهره، أو من رؤوس خطوطه الساهمة كالبوصلة إلى عدو واحد .
لم يكن اغتيال ناجي العلي في "لندن" مفاجأة له، أو لعارفيه، وهو القائل "كان لدي استعداد عميق للاستشهاد دفاعا عن لوحة واحدة".
كان يعرف أنه برسومه يمزق أقنعة كثيرة، ويدك عروشا أو كروشا كثيرة، وينفذ رسالة حملها منذ تفتح وعيه على الثورة الفلسطينيَّة ومقاومتها، ومنذ خرج من قريته "الشجرة" التي استظل فيء إحدى شجراتها السيد المسيح، فتتلمذ على صليبه، قبل أن ينتقل إلى عهدة أساتذة آخرين، وتعلم دروسًا في القومية العربية على يد المناضل أحمد اليماني (أبو ماهر)، قبل أن يكتشف غسان كنفاني فنانا ويطلق رسومه في مجلة "الحرية" أول درجة في سلمه الفني، ثم يعلمه كيف يدق جدران الخزان ويؤذن بأفكاره من أعلى المنابر .
ناجي العلي كان فنانًا ملتزمًا بقضايا شعبه، نقل الرسم من "الشخطرة" المشاغبة والتحفيز على جدران مخيم عين الحلوة في لبنان التي شكلت فسحة رسومه الأولى، إلى جدران الثكنات اللبنانية التي سجن فيها مرات عديدة كونه يشكل "خطرا" على أمن الدولة إلى الصحف العربية، التي بدأ بها إطلالته الواسعة على الجمهور العربي، التي شعر أن حنظلة هو لسانهم المبتور بأمر العروش والديكتاتورية والكروش .
بدأ مسيرته الفنية بمجلة "الطليعة" الكويتية، وأنهاها بمجلة القبس الدولية في لندن، على أن محطته الأساسية، التي أمضى فيها أطول فترة من عمره الفني، وأنتج على صفحاتها أكثر رسومه كانت جريدة "السفير" البيروتية، التي رافق صباحاتها منذ عام 1974 حتى عام 1982 عندما شكل الاحتلال الإسرائيلي لبيروت حدا فاصلا بينه وبين تلك المدينة التي بقي كل يوم يقول لها "صباح الخير يا بيروت" حتى عندما احتلها العدو الإسرائيلي ذات يوم منذ حوالي نصف قرن تقريبا .
عندما استشهد العلي كان نتاجه وصل إلى ما يقرب من أربعين ألف رسم كاريكاتوري، تشهد على ريادته هذا الفن، وإن كانت أحلامه بالتخصص الأكاديمي تبددت، ودراسته لم تتعد ما وصله من تعلم الرسم في "جعفرية" صور وبعض مما تعلمه في الأكاديمية اللبنانية، خلال سنة أمضى معظمها في السجون اللبنانية بسبب "شغبه" الدائم، وقد غدا السجن مفتاح غضبه وصراخه، الذي أسمع العالم من به صمم في هذا العالم، وليس أمرا بسيطا أن يتحول الشاب الحالم بأكاديميات روما والقاهرة إلى واحد من أشهر عشرة رسامي الكاريكاتور في العالم، عندما اختارته صحيفة "أساهي" اليابانية في هذا المقام .
وكان قبل ذلك قد حصد جوائز أولى في معرضي الكاريكاتور العربي في دمشق (1980 – 1979)، ثم بعد استشهاده وصفه الاتحاد الدولي لناشري الصحف في باريس بأنه واحد من أعظم رسامي الكاريكاتور منذ نهاية القرن الثامن عشر، ومنحه جائزة كان أول رسام عربي ينالها .
استطاع الفنان الذكي الممتلئ رغبة في امتلاك سلاح الكاريكاتور، أن يتعلم بنفسه من أساتذة الكاريكاتور العرب أمثال صلاح جاهين وحجازي وبهجت عثمان وبيار صادق وسواهم، إلا أنه عمل دائما على قتل آبائه، والتفلت مما تحصده عيناه من رسوم، ساعيا للبحث عن وسيلة أكثر تبسيطا لإيصال أفكاره ومقولاته ووعيه الحاد، إلى أن تربع على كل هذا النتاج، الذي يشهد على موهبة بقي صداها يتردد طويلا في عالم الكاريكاتور .
لم يحصل ناجي العلي على كل هذا المجد، إلا أنه كان ابن شعبه، عاش منذ طفولته مرارة هذا الشعب وهمومه وقضاياه وفقره والنكسات التي أصيب بها، فالعلاقة المباشرة تلك أغنت تلك الحركة التلقائية في رسومه، وجعلت الرسم ينبع من داخل الفنان، ومن قناعاته ومشاعره الصادقة .إضافة إلى أنه كان ابن القضية التي لابد أن يتفانى لخدمتها بكل الشجاعة المطلوبة، مما جعل رسومه تقف على خط الدفاع الأول، من دون أن يقدم تنازلات أو يخضع لأي إغراءات، ومن دون أن يكترث للخطوط الحمر التي توضع في وجهه، ولا للتهديدات التي كان يتلقاها، والتي رسم آخرها خاتمة حياته. وهو القائل "كلما ذكروا لي الخطوط الحمر طار صوابي أنا أعرف خطًا أحمر واحدًا أنه ليس من حق أكبر رأس أن يوقع وثيقة اعتراف واستسلام لإسرائيل".
ارتفع ناجي العلي عن الواقعية الساذجة، وذلك بخلق المزيد من الحالات الشعرية، تجعل
الرسم يتوالد ويتضاعف في نظر المشاهد، مستغلا بذلك ثقافته، التي عبرها تمكن من أن يجد للرسم أبعادا تفتح أمامه آفاقا معرفية وفكرية تغنيه وتجعله أكثر كثافة وأكثر فاعلية .
لقد بني ناجي العلي لغته مع الناس، بحيث قدم إليهم مجموعة من الرموز والدلات، التي صارت معروفة لدى متابعيه، وليس صعبة على من يراها للمرة الأولى: شخصية المرأة الفلسطينيَّة فاطمة، الزوج المهزوم أو الذكورة المهزومة والقابلة للاستسلام، الغني والفقير، الحمام البعيد عن شكله المألوف والقريب من شكل الغراب، شخصية الرجل السمين بمؤخرة شبه عارية .
وتجدر الإشارة هنا إلى أن ناجي العلي بنى ثنائيات ينحاز بينها لطرف من الطرفين، وهو على العموم منحاز للفقراء والمحكومين والمهزومين والحزاني والمغلوب على أمرهم والمغتصبة أرضهم .
وكان لحضور شخصيته الخاصة حنظلة وقع كبير في نفوس متابعيه، إذ شكل هذا الرمز اللغز المحبب لديهم: كيف أتي في مخيلة صاحبه؟ لماذا يدير هذا الطفل ظهره للعالم؟ لماذا يحمل رأسا تشبه الشمس باستدارتها؟ لماذا يضع يده خلف ظهره؟ وأسئلة كثيرة لا تنتهي آثارها ناجي العلي بشخصية حنظلة، التي صارت رمزا من رموز القضية الفلسطينيَّة .