عباس ثائر
أوصلتُ صديقًا كان عندي في البيت، حيث مفرق طريق يأخذ كلٌّ منا إلى بيته، كانت الساعة تقارب الواحدة بعد منتصف الليل، دخلتُ البيتَ وأغلقتُ البابَ بهدوء مفرط، بينما تغط المدينةُ بنومٍ عميق، إذ أننا نقف على بوابة الشتاء أو أننا نراه -من ثقبٍ- كمن ينتظر أحدًا أو شيئًا ما، فالخريف يشبه كثيرًا ثقب المفتاح ما أن تنظر من خلاله حتى ترى الشتاء واقفًا خلفه ينتظر من يقول له: مرحبًا قد وصلت، تفضل بالدخول.
أغلقت ماسورة المياه عن الحديقة لتنام هادئة بعد شربٍ كثير، دخلت المطبخ، سحبت كتابًا كنتُ قد وضعتُه على طاولة تخلو من الأشياء سوى اناء وحيد فارغ كان يقف حزينًا كما لو كان الزوجة الأولى بعد أول ليلةٍ من زواج زوجها بامرأة ثانيةٍ، كان الكتاب ممتعًا ومزعجًا في الوقت ذاته، ممتعًا لأنه جال بي بين أروق الكنائس الأرثوذكسية بحثًا عن الله في روسيا، التقيت شماسينَ كثر وقساوسة وانبياء صعاليك، ومزعجًا لأني كنتُ لا أُريد أن أنتهي منه، أقرأ يوميًا شيئًا من صفحاته، ثم أضعه في أقرب مكان يصادفني، مزعجٌ أن تعتاد على رفقة شيء لتتركه فقط. إن قراءة الكتب الجيدة ومرافقتها ثم الانتهاء منها، ثم يكون للمكتبة الحظ الأوفر بأن تحتضن الكتاب أبدًا فهو أمرٌ عجيب، أن تترك كتاباً بعد متعة عصيةٍ على وصفِ شاعر، أمرٌ يجعلُ المرءَ يتدرب على التخلي، نرافق الكتب فنتخلى عنها، فيما بعد، هذا درس كبير في التخلي والترك، أحاول إلّا أتخلى عن (الاعتراف) بصفته كتابًا لمكسيم غوركي، ودرسًا لي في البحث والتخلي، تأبطتُ الكتابَ، وانحنيت لقلم رصاص أخضر سقط من حضنه فانكسر إلى نصفين كما ينكسر الشاعر جراء غياب الشعر عنه لفترة طويلة.
أخذت نصفاً وتركت الآخر، صعدت إلى غرفتي لأباشر «الاعتراف» لأصدمَ بمجموعة كتب قد تركتها مبعثرة. أردت أن أُزحزحَ كتابًا بقدمي عن طريقي، فامتنعت -حمدًا لله- إذ تذكرت كتابي الوحيد، فسألت نفسي: ما موقف ذاتي من قدم تُزحز كتابًا ضمها؟ أعني كتابي، أن طباعةَ أعمالنا الذهنية ونشرها شيءٌ مهم، يذكرنا بأنفسنا أنها -صدقًا- لمْ تزل حيّة بين الأشياء الميتة، بين الموت الحي الغزير، جلستُ على سريري قلبتُ صفحات من الاعتراف، وإذا بالموت الغزير، يصرخ بصوت بعيد، صوتًا يبثه الاعلام و"السوشيل ميديا"، من أحد مستشفيات الوطن، صوت يقول: مات صوت الأرض الفنان ياس خضر، مات البنفسج لذا «يا ناس حبوا، والعمر بس مرة وحدة»، لأننا «مسافرين ولا نمر مرة بدربهم»، نحن الذين «علمنا الخلق معنى الوفا بدروب الهوى»، نحن الذين «طرزنا الستاير للشبابيك العبر منها الضوة» فعبر «الريل سافرنا إلى حمد» وبينما نحن نجتاز «أم شامات»، تذكرنا أن العمر تعدى الثلاثين، ونحن نتوسل البعيد بأن: «تعال بحلم، أحسبها ألك جية وأكولن جيت، گالولي عليك هوآي، ورحت براي، وجيت براي» وحتى اللحظة لم أعرف «منين أجيب زرار للزيجه هدل»، من دون أن أهتم كثيرًا بتلك العيون التي «تشبه زراير البراري» مهما كانوا «عدنا عزاز» لن أمشي معه صوب «المگير أودعه».
*الكلام المحكي الذين بين الأقواس، هو من أغانٍ متفرقة للمطرب العراقي الراحل ياس خضر.